قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [(ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها)، ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، متفق عليه.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وأنا أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
فتنة عمياء ودعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا.
قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: يا رسول الله! ما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) أخرجاه.
وزاد مسلم: (ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط عنه وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره.
قلت: ثم ماذا؟ قال: هي قيام الساعة).
وقال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الصراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإياكم وهذه الأهواء.
انتهى.
تأمل كلام أبي العالية رحمه الله تعالى هذا ما أجله واعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام، وتفسير الإسلام بالسنة والإسلام، وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، وقوله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].
وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة، وبمعرفته يتبين معاني الأحاديث في هذا الباب وأمثالها، وأما الإنسان الذي يقرؤها وأشباهها وهو آمن مطمئن أنها لا تناله، فيظنها في قوم كانوا فبانوا، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذه سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]) رواه أحمد والنسائي].
هذا الكلام والنصوص متمم لما سبق تحت الباب الأصل وهو، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30]، وهنا ساق الشيخ عدة نصوص وأقوال وآثار للعلماء هي امتداد لتفسير معنى الحنيفية والدين، وأيضاً ما أمر الله به من الاستقامة على الفطرة والإسلام، وللشيخ وقفات عجيبة ولمحات تدل على قوة فقهه في السنة والنصوص، فهو أورد الحديث ليبين أن الإسلام هو دين الفطرة (ما من مولود يولد إلا على الفطرة).
ثم أشار إلى أن الأصل في الناس كلهم أنهم على الفطرة، وعلى الإسلام بمعناه العام، فإذا وفق الإنسان لأن ينشأ في بيئة مسلمة ويتربى على يد أبوين مسلمين فإنه يتحقق له الإسلام بمعناه الخاص وهذه درجة ثانية، ودرجة ثالثة وهي إذا وفق العبد للاستقامة على السنة وربي عليها وبقي له معنى الإسلام الصحيح الكامل وإن لم يوفق فقد ينحرف عن السنة ولو لم يخرج من مسمى الإسلام بمفهومه العام الشامل، ولذلك لما تكلم الشيخ بعد ذلك عن هذه الأمور فصل فيها على هذا النحو.