ثم ذكر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلي رجال من أمتي، حتى إذا أهويت لأناولهم احتجبوا دوني، فأقول: أي رب! أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
فهذا الحديث ونحوه من الأحاديث المشابهة تعتبر من النصوص التي تشتبه معانيها، ولا بد من ردها إلى نصوص أخرى، والاشتباه آتٍ من أن أهل الأهواء استدلوا بمثل هذا الحديث على أن الصحابة ارتدوا، وهذا استدلال خاطئ ومبني على أن أهل الأهواء لا يردون النصوص إلى النصوص الأخرى، ولا يفسّرون النص بنص آخر، أو يردون النصوص إلى القواعد الشرعية التي تفسرها وتبينها، فإن هذا الحديث وأمثاله جاء على عدة ألفاظ وعلى عدة معانٍ تقتضي أن نفسّر هذا الحديث بغيره، وهذا الحديث لا بد أن يخصص هذه الفئة الذين يرتدون، والمخصص هو الأحاديث الأخرى التي فيها تزكية الصحابة رضي الله عنهم وأن الله رضي عنهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي عنهم وقد زكاهم وأمر بعدم سبهم، وعلى ذلك فإنا لا بد أن نفسّر الحديث بمقتضى نصوص أخرى كما سيأتي.
إذاً: الحديث من يعني من فئة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ بعض أهل العلم قال: إن هذا فيه إشارة إلى المنافقين ممن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتظاهرون بأنهم أصحابه، وهؤلاء لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وبعضهم قال: إن هذا لا يعني الردة، وهو الراجح، وإن وردت في بعض ألفاظه: (ارتدوا) وارتدوا بمعنى تراجعوا أو تركوا بعض الحق لا ارتدوا عن الإسلام، فيحمل الحديث على معنى آخر، وهو أن المقصود به الذين وقعوا في أخطاء عن اجتهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممن كانوا في وقته لكنهم يذادون عن الحوض فقط، ولا يعني ذلك عدم دخولهم الجنة، فهم يعاقبون بذنوب كسائر الذنوب التي يقع فيها المؤمنون، فهم قد يكونون ممن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا احتمال بعيد، لكن ليسوا من أصحاب الردة أو البدع أو الأهواء والافتراء، إنما ممن وقعوا في معاصٍ أو مخالفات للسنة، فيذادون عن الحوض ولا يشربون لكنهم يدخلون الجنة، وهذا يؤيده القول الراجح في أن الحوض بعد الصراط، ونحن نعلم أن من تجاوز الصراط لا بد أن يدخل الجنة، لكن قد يحصل له قبل دخول الجنة أمور، منها: أن توصد أبواب الجنة أمام الكثيرين من المؤمنين، وأيضاً بعض المؤمنين قد لا يشربون من الحوض عقوبة لهم على ذنوب عملوها، لكنهم نجوا بغيرها فعوقبوا عقوبة جزئية لا تحرمهم من الجنة، لكن تحرمهم من بعض النعيم قبل دخول الجنة، وهذا على احتمال أن المقصود به أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الاحتمال الراجح والذي يفسره النصوص أن المقصود بـ (أصحاب) هنا الأتباع وليس المقصود بالأصحاب الصحابة، لأن أمة النبي صلى الله عليه وسلم كلهم أصحابه وإن كان فسّر ذلك في حديث آخر حينما قال: (أنتم أصحابي) فنقول: إن المقصود هنا بالأصحاب المعنى الخاص، والأصحاب هناك يقصد المعنى العام، ولا شك أن الصحبة لها معنى خاص ومعنى عام، فالأصحاب قد تطلق على الأتباع حتى على مقتضى اللغة العربية، وجاءت بعض الألفاظ الشرعية تدل على أن الأصحاب هم الأتباع الذين هم الأمة، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم جملة أمته، وصحابته الذين عاشوا في عصره لهم صحبة أخص؛ فإذاً: المقصود بالأصحاب هنا المعنى اللغوي العام، وهو أنهم من أمته.
ولذلك عندما يأتي مثل حديث أبي هريرة التالي قوله صلى الله عليه وسلم: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي) فالأصحاب هنا بمعنى الصحبة الخاصة، لكن الإخوان لا يخرجون من المعنى العام للأصحاب، وهذا هو الظاهر على مقتضى القواعد الشرعية واللغة العربية (الذين لم يأتوا بعد، قالوا: فكيف تعرف من لم يأت بعد) إلى آخره، ثم ذكر وصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم غر محجلون، تظهر آثار الوضوء على جباههم وأيديهم وأرجلهم، وهذه من فضائل هذه الأمة وتدخل في فضائل الإسلام التي أشار إليها الشيخ في العنوان.
وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري: (بينما أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة) إلى آخره، فقوله: (ثم زمرة) يدل على أن هذا يحصل في أجيال بعد الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الحديث لا يدل على الردة عن الإسلام، وإن كان يحتمل هذا المعنى، لكن ظاهره أن المقصود به الارتداد عن الحق بمعنى التفريط وبمعنى الإخلال لا بمعنى أن ينهدم الإسلام في نفوسهم، هذا هو الظاهر؛ لأن هذه من نصوص الوعيد.
ثم قال: (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)، هذا يدل على أنه ليس المقصود بهم الصحابة؛ لأن الصحابة جملتهم ناجون بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم