فإن قيل: ما الذي يجعل عاشق الدنيا يزهد في الآخرة؟
صلى الله عليه وسلم عاشق الدنيا والعياذ بالله يشرب خمراً، فأنت أيها المسلم! إن حرمت على نفسك الخمر فإن الله يرزقك في الآخرة بخمر لا يسكر العقول، لكن عاشق الدنيا يقول: يا فلان! عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة، واليوم هو اليوم وغداً يموت.
فإن قلت له: إنك يا أخي! إن لم تصل الآن فستصلي في جهنم؟ فإنه يقول: يا فلان! لا تشددوا علينا، وهكذا.
فإذا كنت تريد أيها المؤمن أن تكون مخلصاً فازهد في المدح والثناء زهد عشاق الدنيا في الآخرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه].
يعني: الشيء الذي أزهد فيه يؤثر عند الناس، أي: أطمع فيما في يد الله عز وجل؛ لأن الذي في يد الناس قد يزول، ولكن ما عند الله لا يزول.
فقد تقول: عنده أولاد وليس عندي أولاد، وعنده أموال وليس عندي شيء، وعنده خير وليس عندي خير، وهذا لا ينبغي، إذ إن الحسد لا يكون إلا في اثنتين: مسألة العلم وهو يعلم في ابتغاء وجه الله، ومسألة المال ينفقه في سبيل الله، فتقول: أريد أن أكون مثل فلان كي أنفق مثله، وبذلك لا يحسد مسلم مسلماً أبداً، وإنما يغبطه أي: يتمنى أن يكون عنده ما عند صاحبه ولا يتمنى زواله منه.
والذي يسهل عليك الذبح علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه، إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه.
قال: [أما الزهد في الثناء والمدح فيسهله علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده].
يعني: أنا حريص على ثناء الناس وأفرح إذا أثنوا علي، وأغضب عندما يشتمني الناس ويذمونني وأحزن، وهذا خطأ، إذ الذي يفرحك مدح الله لك وثناؤه عليك، والذي يحزنك ذم الله لك، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، فعندما يثني الله على العبد فهذا هو حرصه عليه، وعندما يذم الله عز وجل العبد والعياذ بالله فهذه هي المسألة التي لابد أن نكون منها في خوف ووجل، ويريد ابن القيم أن يقول: إن المسلم بمدح الله له وذم الله له، فإن عمل خيراً يمدحه الله عز وجل ويقول: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، وإن عمل شراً يقول: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم توضع له البغضاء في الأرض.
مثلاً ليس كل مصل بمصل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: عاق لوالديه، ومدمن الخمر، والديوث)، فهذه المسائل كلها في ذم الله، فالله عز وجل يمدح المؤمن المستقيم على الطريق ويذم الفاسق المنحرف عن الطريق.
وقد يمدح الناس إنساناً يكون من أهل النار، صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ألسنة الخلق أعلام الحق)، ويقول: (أنتم شهداء الله في الأرض)، لكن الذي يشهد له بشهادة الله عز وجل ظاهره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربما يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ستين سنة، ثم لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها فيدخلها، وربما يعمل أحدكم بعمل أهل النار ستين سنة فيما يبدو للناس، ثم لا يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهلها فيدخلها).
إذاً: نحن لنا ظواهر الأمور فقط.
قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن مدحي زين وذمي شين)، أي: لو مدحتك سأزينك، ولو ذموتك سأشينك -يعني: أقلل من مقامك- فقال: (ذاك هو الله عز وجل) يعني: المدح الذي يزينني والذم الذي يشينني هو الله، فالناس لا يهم مدحهم ولا ذمهم، إذ إن المهم هو النصر للمؤمن في الأخير في دار الحق إن شاء الله رب العالمين.
إذاً: فازهد في الدنيا، وازهد عندما يقول الناس جميعاً شعوباً وحكاماً: المحجبات والمنقبات وأصحاب اللحى والمساجد هم الذين أودوا بالبلاد في الدواهي، أليس هكذا يقولون؟ بلى، هم يقولون ذلك، حتى أوقعوا في عرف الناس أنهم إذا رأوا في الطريق ملتحياً أو منقبة أو مخمرة أو امرأة محجبة ذاهبة إلى المسجد مباشرة يقولون: هذا تطرف، متطرفة متشددة، ليس هكذا الدين، الدين يسر وليس عسراً.
فإذاًَ: ذم الناس لك على حضورك مجلس العلم أو الاستهزاء بالمحجبة لا يشين بالمسلم ولا بالمسلمة، إنما الذي يشينك ذم الله لك، قال الشاعر: إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضباناً علي لئامها وإن رضيت عني لئام عشيرتي فلا زال غضباناً علي كرامها يذكر أن صحفياً نصرانياً مشهوراً بنصرته للنصارى كان يذم أحد العلماء قبل أسبوعين في الجرائد، وهذا يدل على أن الرجل سيئ والعياذ بالله، فالمسلم يهمه مدح الله أو ذمه، اللهم اجعلنا من الذين مدحتهم بأعمالهم يا رب العالمين! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]].
أي: في نصره ومؤازرته؛ لأنه يدافع عن الذين آمنوا.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فهؤلاء لديهم صبر ويقين، إذاً: الذي ليس عنده يقين ليس عنده صبر، والذي عنده صبر عنده يقين.
يقول أبو بكر رضي الله عنه: الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله.
ويقول الإمام علي رضي الله عنه: لو كشف عني الحجاب لما ازددت من الله قرباً.
وقيل لـ أبي بكر رضي الله عنه: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى المسجد الأقصى وصعد إلى السماء السابعة، فقال لهم: إن قال ذلك فقد صدق، فقال أبو جهل: إن كنت صادقاً فصفه لنا يا محمد! ولو أن شخصاً ذهب بالليل عشر دقائق ودخل جامعاً كبيراً مثل هذا وليس فيه أنوار ماذا سيصف؟! فنقل جبريل المسجد الأقصى على كتفه أمامه، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يصف المسجد الأقصى، فسمي أبو بكر يومها بـ الصديق؛ لأنه يصدقه في مسألة غيبية.
يروى أن خزيمة بن ثابت الأنصاري وجد يهودياً واقفاً يقول: يا محمد! أعطني ديني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لقد قضيتك دينك، فقال اليهودي: لم تقضني ديني، فقال خزيمة رضي الله عنه: لقد أخذت دينك أيها اليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتني وأنا أعطيه يا خزيمة! دينه البارحة؟ قال: لا، لقد كنت مسافراً منذ ثلاثة أيام يا رسول الله! ما حللت المدينة إلا الساعة، قال: فلم تشهد على شيء لم تره؟! قال: عجباً يا رسول الله! أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في دين يهودي؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد له خزيمة فهو حسبه.