الحمد لله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: ندعو الله عز وجل أن يجعل جمعنا هذا برحمته جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.
اللهم لا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، فك اللهم الكرب عن المكروبين، اللهم فك الكرب عن المكروبين، اللهم فك الكرب عن المكروبين.
واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم أمواتنا وأموات المسلمين، وإن أردت بعبادتك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين.
اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة وفي هذا الشهر العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا صاحب حاجة إلا قضيتها له، ولا ضالاً إلا هديته ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً لأهله رددته.
اللهم اطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، كن لنا ولا تكن علينا، ثقل بهذه المجالس موازيننا يوم القيامة.
اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم اجعلها خالصةً لوجهك الكريم، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: ما زلنا مع ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه العظيم الفوائد، فاللهم اجعله لنا فوائد في الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين! يقول ابن القيم رحمه الله: [لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة النفس والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت].
إن ابن القيم يجمع بين المتضادات، والمتضادات لا تجتمع أبداً، فهو يريد أن يقول: إنك لا تجمع الماء مع النار، ولا تجمع الضب مع الحوت، ولا تجمع الأسود مع الأبيض، كذلك لا تستطيع أن تجمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء، يعني: إن أحببت أن يمدحك الناس ويثنوا عليك فأنت لست مؤمناً.
إذاً: هذه علامة جديدة من علامات المخلص، فالإنسان المخلص سواء مدحه الناس أو لم يمدحوه فإنه لا يتغير، وإنما هو مجبول على الإخلاص لله عز وجل.
وإخلاص العبد فيه ثلاث صفات: أن العبد لا يطلع عليه فيعجب به، ولا الشيطان يطلع على إخلاص العبد فيفسده ولا الملك المقرب يكتبه، إنما المطلع الوحيد على إخلاص العبد هو الله.
فـ ابن قيم الجوزية يضيف علامة جديدة من علامات إخلاص القلب لله عز وجل، أن الإنسان وهو يعمل لله لا يريد ثناءٍ من العبد ولا مدحاً، بل بالعكس يحب عدم المدح أكثر من المدح؛ ولذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، وكان سيدنا أبو بكر إذا مدحه أحدهم يقول: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون، يعني: هناك أشياء لا يعرفها الناس عنه، ولذلك من كرم الله سبحانه وتعالى أن جعل الستر، ومن كرمه سبحانه أن العبد الذي يستره الله في الدنيا لم يفضحه يوم القيامة وهذا من ستر الله أيضاً، وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى سيكرم العبد؛ لأنه إن ستره في الدنيا فلن يفضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة، اللهم يا من سترت في الدنيا! لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة آمين يا رب العالمين! هكذا كان يدعو أبو بكر في صلاته، فإن فضيحة الآخرة مسألة لا علاج لها، نسأل الله السلامة، ونسأل الله أن يسترنا وإياكم دنيا وأخرى، وأن يجعل كل أعمالنا مستورة عنده عيبها وشرها وانحرافها، إنه سبحانه على ما يشاء قدير.
وقد صلى الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات زرافات ووحداناً، يعني: جماعات وفرادى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني)، يعني: لا تمدحوني، وقد كان بعض الصالحين إذا مُدح يقول: اللهم أنت أعلم مني بنفسي فاغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون، وأخذوا هذا الدعاء من أبي بكر رضوان الله عليه.
ولذلك يقول الله عز وجل: يا ابن آدم إذا أصبتك بمصيبة شكوتني إلى عوادك وزوارك، وكم من عمل قبيح منك يصعد إلي في الليل والنهار فلا أشكوك إلى ملائكتي.
فالله سبحانه وتعالى يعاملنا بهذا اللطف ونحن نتعامل معه بهذا الأسلوب، هو لا يشكونا إلى ملائكته، قال أحد الصالحين: ابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك لاحتقرت الموصوف وأنت لا تعرف أنه أنت، أي: لو أن شخصاً وصف لك نفسك لقلت: إن هذا سيئ، قال سبحانه: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج:38]، وطلب الجنة بلا عمل إثم من الآثام، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان.
إذاً: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة النفس والثناء والطمع فيما عند الناس، فالإنسان إذا كان يطمع فيما عند الناس، فليس عنده إخلاص، فإنه لو كان عنده إخلاص لا يطمع إلا فيما عند الله، فإذا طمع الإنسان فيما عند الله، فقد طمع في الخير كله، ومادام ربنا سبحانه وتعالى بيده خزائن ومفاتيح السماوات والأرض، فاللهم افتح لنا أبواب رحمتك يا أكرم الأكرمين! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس].
بدأ ابن القيم أسلوبه بهذه الطريقة، يقول: أتريد أن تكون مخلصاً مقدماً على الإخلاص؟ اذبح الطمع الذي يعتريك بسكين اليأس من الناس والأمل في الله.
ومادام أنني يئست من الناس فإن أملي يكون في الله فقط.
قال: [فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة].
دخل رجل على هارون الرشيد رحمه الله، فرأى القصور والجواري، وكانت ثياب هذا الرجل ليست مناسبة للمقام، فقال هارون الرشيد: إنك لرجل زاهد، قال الرجل: يا أمير المؤمنين! أنت أزهد مني، قال: كيف ذلك؟ قال: أنا زهدت في دنيا فانية، وأنت زهدت في آخرة باقية! وللأسف الشديد نجد أن تاريخ المسلمين كتبه علماء الغرب المستشرقون الذين يكنون للإسلام كل شر، فصوروا لنا هارون الرشيد أنه لا يسمع إلى العلماء، مع أنه كان مجلسه مجلس علم وفقه وأدب وقد دخل عليه هذا وقال له أمير المؤمنين ما قال، ورد الرجل على أمير المؤمنين ولم يغضب أمير المؤمنين، لكن لو أن واحداً من زماننا هذا قال لرئيس دولة ذلك فلا ندري ما الذي سيحصل لهذا المسكين؟! فذاك يقول: أنا ابن رجل من القريتين عظيم، والثاني: يقول: أنا ابن أمير المؤمنين، لكن لسان حال هذا المسكين يقول: أما أنا فابن من أمر الله الملائكة أن تسجد له.
قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً يعني: يا رب أنا من ضمن عبادك، وأرسلت أحمد لي نبياً، وأنا أتبعه صلى الله عليه وسلم.