أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد.
اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه هي الوقفة الثانية مع الإمام ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه، وسمي ابن قيم الجوزية؛ لأن الجوزية مدرسة كان والده قيماً عليها، فهو ابن قيم الجوزية، وقد أجرى الله على يديه خيراً كثيراً.
وإن العمر لا يقاس بالسنوات، فقد دخل غلام على عمر بن عبد العزيز فقال له: يا غلام! ليتكلم من هو أكبر منك سناً فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان هناك في المجلس من هو أحق منك بالخلافة.
فليست القضية قضية سن، ولكن القضية في الإسلام هي البركة في العمر، ونحن ندعو دائماً فنقول: اللهم بارك لنا في أعمارنا.
فالبركة في العمر مهمة، فليس المطلوب أن يعيش الإنسان حياة طويلة، ولكن المطلوب أن يعيش حياة عريضة يترك فيها خيراً، كما قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: (عيشوا مع الناس بخير، حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم ترحموا عليكم).
فحين يغيب المسلم العامل يحن الناس إليه، وحين يموت يترحم الناس عليه، ولكن الفاجر -والعياذ بالله- حين يغيب يحمد الناس الله، وحين يموت يفرح الناس بموته، وهذا دليل على سلب الرحمة منه.
قال الله عز وجل: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5]، فما أخره الإنسان هو الذي يستمر ثوابه بعد موته إلى يوم القيامة، حتى إن الإنسان ليجد في كتاب حسناته حسنات لم يعملها، فيقول: يا رب! هذه حسنات ما فعلتها في الدنيا! فيقول الله عز وجل: هذه أعمال قد تركتها بعد موتك.
وقد جاء في الحديث أن الإنسان المسلم قد يترك خلفه عشرة أمور يستمر ثوابه فيها بعد موته، فمن بنى مسجداً أو وضع فيه لبنة بقي له أجره إلى يوم القيامة، وكذلك إذا غرس نخلاً، أو شجراً، فأكل منه طائر، أو حيوان، أو إنسان، أو استظل به مخلوق، فيكون له ثواب غرسها إلى يوم القيامة.
ثم إنه ما من شيء إلا يسبح بحمد الله، فالشجر وهو أخضر يسبح، فهذا التسبيح ثوابه لمن زرع.
فالثواب يعود إليه إذا اتقى الله عز وجل، وإذا توكل على الله، وإذا رضي وقنع بما آتاه الله.
وقد صار الفلاحون اليوم -مع الأسف الشديد- هم البعيدين كل البعد عن الطريق وعن الالتزام، وكثير منهم حاقد وحاسد وناقم وغير راض، ولا يتقي الله، فبعد أن كان يستيقظ ويبدأ يومه بصلاة الفجر صار من الساهرين أمام التلفزيون والفيديو وغيرهما، فلا يستيقظ إلا متأخراً، ولا يذهب إلى عمله إلا متأخراً.
وقد كان الفلاح لا يرجع إلى البيت حتى يخرج حق الفقير قبل أن يعود إلى البيت، وهذا تفسير الحرفي لقول الله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، وربنا كان يبارك له في زرعه، فما كانت الأرض تصاب بالآفات، ولم نسمع عن الآفات إلا بعد انقلاب اثنين وخمسين، حيث انتشرت الآفات في مصر انتشاراً غريباً، حتى كثر أساتذة المبيدات، وكثرت شركات المبيدات، وكثرت أمامها الحشرات والآفات الضارة، وصار كل ذلك نقمة على الفلاح ونقمة على الدولة ونقمة على المسئولين، ونقمة على العصاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
فربنا سبحانه وتعالى جعل الزكاة تطهيراً للمال، وجعلها تزكية للنفس، ووقاية من الشح، وليس المراد أن يقي الإنسان نفسه من الشح بالمال فقط، فهناك من له جاه يستطيع أن يخدم به غيره، وهناك من عنده صحة يستطيع أن يخدم بها الناس، وهناك من عنده علم يستطيع أن يعلمه الناس.
فمن علم علماً من العلم المفيد فإن ثوابه يصل إليه بعد موته، ومن غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو كتب مصحفاً، أو تسبب في طباعة مصحف، أو علم القرآن كان له ثواب ما صنع يصل إليه بعد موته إلى يوم القيامة.
وكذلك من ترك صدقة جارية، فعمل مستشفى خيرياً، أو مستوصفاً، أو شارك في بناء مدرسة، أو شارك في بناء مسجد، أو وضع لمسجد مراوح أو ماء، أو أسدى مشغلاً لليتامى ثم ملكهم إياه، فكل هذه صدقات جارية يجري للعبد ثوابها بفضل الله عز وجل.
فمن وفق لإيجاد مشغل لليتامى يعملون فيه، ثم ملكهم إياه؛ كان عمله خيراً كبيراً، فبدل أن كان يتصدق عليهم صاروا يتصدقون على غيرهم.
وكذلك لو أنشأ أحد معهداً لتحفيظ القرآن الكريم، فحفظ فيه عدد كبير، فكل حافظ للقرآن يأخذ الثواب، والذي علمه يأخذ نفس الثواب، والذي بنى المعهد يأخذ نفس الثواب، والله سبحانه وتعالى هو المتقبل.
ومن الأعمال التي يصل ثوابها دعاء الولد الصالح، ونحن بحاجة إلى أن نربي الولد الصالح، فلابد من أن يكون هذا الولد قد أخذ مجهوداً من أبيه، ومجهوداً من أمه، في تربيته؛ وما الفائدة إذا كنت تبني وغيرك يهدمهم؟! فكثير من عوامل الهدم تحيط بأبنائنا، فأنت تتحدث مع الولد عن الصدق وعن الأمانة، وعن القول الطيب، فيذهب إلى المدرسة ويسمع كلمة السوء، فيسمع السب واللعن من أساتذته، فلا يرى قدوة صالحة فيمن يدرسه وفيمن يعلمه، ويعود إلى بيته فيرى أمه تخرج بالحجاب الشرعي، وفي المدرسة يرى حال المدرسات، ويفتح التلفزيون فيجد المذيعة على حالة من التبرج عظيمة، فيحكم على أمه بالجنون، ويحكم على سائر المجتمع بالاستقامة.
فالذين تتصل أعمالهم بعد موتهم في قبورهم منهم من بنى مسجداً، ومنهم من كتب مصحفاً، ومنهم من أنجب ولداً صالحاً يدعو له، ومنهم من غرس نخلة أو شجر، ومنهم من حفر بئراً، أو حفر نهراً، فهذه الأمور تصل إلى العبد بعد موته، ولذا يترحم الناس عليه، ولذا لا يسمع مسلم ذكر الصحابة والتابعين إلا وقال: رضي الله عنهم، كما يقال عن كل صالح: رحمه الله، فقد كان رجلاً صالحاً.
فالميت مستريح أو مستراح منه، فإذا مات الفاجر أو الكافر أو المنافق تقول الملائكة: الحمد لله الذي أراح منه البلاد والعباد، والعياذ بالله رب العالمين.
وأسوأ الناس عند الله يوم القيامة رجل يكرم اتقاء شره، لأنه ذو منصب، أو ذو لسان طويل، فيكرم لدفع شره، فهذا هو أسوأ العباد عند الله.
فيجب أن نعيش مع الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: (عيشوا مع الناس بخير حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم ترحموا عليكم)، فاللهم اجعلنا منهم يا أكرم الأكرمين.