شرح حديث: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه)].

هذا من تأديب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فالله جل وعلا خلق الخلق متفاضلين فيما أعطاهم من النعم، وفيما صرفه عنهم من النقم، وبما جبلهم عليه من الخلق والخلقة، فالإنسان بين أمرين: بين أمر ديني وأمر دنيوي، ففي أمور الدين والطاعات ننظر إلى من هو أعلى منا؛ حتى نحتقر أعمالنا وننافسهم في الطاعات، قال الله جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

وأما فيما أفاء الله علينا من الدنيا فإن الإنسان إذا نظر إلى أعلى دخل عليه الشيطان فجعله يزدري نعمة الله عليه، فحري به أن ينظر إلى من هو أسفل منه، وليس المقصود بأسفل أن من كان مبتلىً فهو أسفل لا، وإنما المقصود أقل فيما هو ظاهر من فضل الله الدنيوي عليه، والفضل الدنيوي لا ينجم عنه أجر ولا عقاب؛ فإن الله جل وعلا يعطي الدين لمن يحب، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يتعلق بالفقر والغنى، ولا بالصحة والمرض أي ثواب ولا عقاب، فلا يدخل أحد الجنة لأنه مجرد فقير، ولا يدخل أحد النار لأنه مجرد غني، ولا يدخل أحد النار لأنه معافىً، ولا يدخل الجنة أحد لأنه مبتلىً، لكن العبرة بتعاملنا مع الغنى والفقر، وتعاملنا مع الصحة والمرض، وتعاملنا مع العافية والابتلاء، فهذا هو الذي ينجم عنه العمل، وينجم عن العمل إما الثواب إن كان في الطاعات، وإما العقاب إن كان في المعاصي.

هذا الذي يتحرر من هذا الحديث عموماً.

فالإنسان متى ما سلم من الكبر كان حرياً به ألا يزدري نعمة الله جل وعلا عليه، ومن أعظم المهلكات -عياذاً بالله- أن يقع في الناس أو في الفرد أو في المرء كبر في أمور الدنيا؛ لأنه لا يمكن أن يقع في أمور الدين؛ لأن هذا لا يسمى ديناً أصلاً، لكن قد يقع في أمور الدنيا كبر ويشعر الإنسان بالعلو، فإذا شعر الإنسان بعلوه نجم عن ذلك تصرفات إما قولية أو فعلية، فتكون عياذاً بالله من أعظم المهلكات، والحجاج بن يوسف هذا أمير عرف عنه البطش الشديد، وكان من أذكياء الخلق، وأشدهم علماً باللغة، يقول عن غيره -رغم علوه-: أربعة كانوا بالكوفة لو أدركتهم لضربت أعناقهم -وذلك قبل أن يصل هو إلى الكوفة- قيل: من هم أيها الأمير؟! وأنا سأذكر نماذج كفرية، فالإنسان إذا علم هذه النماذج فلينظر إلى وقعها على قلبه؛ فإن رأيت في نفسك نكراناً لها فهذا والحمد لله فضل من الله، وإن رأيت في نفسك حباً أن تكون واحداً منهم فينبغي على المرء أن يصلح قلبه، قال الحجاج: صعد أحدهم على منبر فخطب خطبة أعجبت الناس، فقد كان بليغاً، فلما نزل من المنبر قال له أحد الناس: كثر الله من أمثالك، فقال هذا المتكبر عياذاً بالله: لقد كلفت ربك شططاً! فهذا كفر، لكن أنت لا تتوقع أن هذا الرجل قال هذه الكلمة بمجرد أنه صدم بالسؤال، لكن هذه سرائر، فهذا عتو أصلاً في القلب، فلما جاء الموقف الذي يستخرج منه باللسان قال هذه الكلمة.

وأحدهم ضاع عليه فرس فقال: قسماً بالله! لئن لم يرد الله إلي فرسي لأتركن الصلاة والصوم، فما هي إلا برهة فرجعت إليه فرسه، فقال عياذ بالله: لقد علم ربي أن يميني كانت حقاً، وهذا أكفر من الأول عياذاً بالله، ولا أريد أن أذكر الإثنين؛ فأخشى على نفسي وعليكم من قسوة القلب، لكن المقصود أن هذين الرجلين كمثال، فهذه أشياء سرائر تقع في القلب سراح -عياذ بالله- فيشعر الإنسان فيها أنه كبر.

ونبيكم عليه الصلاة والسلام كان مرة على قصعة من طعام، والناس ملتفون حولها، فكأنهم كثروا، فغير جلسته وجلس جلسةً أخرى، فكأن أحد الحاضرين تعجب منها، أي: كأنه اشمأز منها، وهو أحد الأعراب الذي لم يكن قد وصل الإيمان بعد إلى قلبه وصولاً حقيقياً، فنظر نظرة يستنكر فيها هذه الجلسة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد الله ورسوله).

وسيمر عليكم في البخاري في حديث الشفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يأكل الذراع -فقد كانت تعجبه- أخذها ينهسها نهساً، فهذا النهس ليس أكل الملوك، ولا أكل المترفين، وإنما أكل شخص جائع، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أدباً، لكنه أراد بذلك أن يبين فقره ومسكنته وأنه عبد للرب تبارك وتعالى، فلا يصنع صنيع المترفين الذين ينظرون إلى ما حولهم نظرة استغناء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015