قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره).
وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)].
هذان الحديثان المتتابعان يتكلمان عن الجنة والنار، وقد جاءت الألفاظ النبوية بأمرين: الأول: حجبت النار بالشهوات.
الثاني: حجبت الجنة بالمكاره.
وفي الحديث الثاني: أن الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وكذلك النار.
والجنة والنار مخلوقتان لله تبارك وتعالى، لا تبيدان ولا تفنيان، وهما موجدتان الآن، والله تبارك وتعالى جعل الجنة داراً لأوليائه، وجعل النار داراً لعصاته، ولما خلق الجنة بعث إليها جبريل ليراها، فلما رآها قال: (وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها الله جل وعلا بالمكاره)؛ لأن الجنة درجة عالية تحتاج إلى صعود، فلما رآها جبريل مرة أخرى قال: (وعزتك ما ظننت أن سيدخلها أحد)؛ لأن بينها وبين الناس مفاوز وهي المكاره.
والمكاره هي المشاق التي تحصل عند القيام بالعبادة، كالذهاب إلى الصلوات، والصيام، وإنفاق المال، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، والصبر على أقدار الله جل وعلا وقضائه، والكف عن الشهوات، وغض البصر، وحفظ الفرج، فهذه كلها مكاره، لكن الإنسان إذا هتك الحجاب وتخلص من هذه المكاره، واستطاع أن ينتصر عليها لم يكن بينه وبين الجنة شيء، ولهذا قال في الحديث الآخر: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: المعنى في الحديث الثاني: أن الجنة سهل الحصول عليها إذا تحقق القصد، وقام العبد بالطاعة، وكذلك النار سهل دخولها إذا اتبع المرء هواه، وفعل المعصية.
فهذان الحديثان مرتبطان بعضهما ببعض، وقد بينا أن الجنة والنار داران قد خلقهما الله تبارك وتعالى.
فهذه الجنة كما حفها الله بالمكاره فقد حف الله جل وعلا النار بالشهوات، وفي رواية البخاري: حجبت، وفي رواية مسلم: حفت، والمعنى واحد متقارب.
والشهوات المقصود بها هنا: الشهوات المحرمات، وأما الشهوات المباحة فلا تكن بينك وبين النار.
والمقصود من الحديث الثاني إضافة إلى ما بينه ابن الجوزي أن نقول: ألا يحتقر الإنسان أي عمل يصنعه، وألا يحتقر أي معصية يفعلها، فقد تكون تلك المعصية سبباً في هلاكك، وقد تكون تلك الطاعة سبباً في نجاتك، قال علي رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله أخفى اثنتين: أخفى الله أولياءه في عباده، فلا تدري من تلقاه أيهم ولي لله، وأخفى رضاه في طاعته، فلا تدري أي طاعة أطعت الله بها كانت سبباً في رضوان الله تبارك وتعالى عليك).
والمقصود من الحديثين: ألا يزدري الإنسان أي طاعة ولا يحتقرها، وأن يسابق في الخيرات وينافس بالطاعات، ويعلم أن الجنة درجة عالية تحتاج إلى صعود، ففي ذلك مشاق وعناء، وسيأتي في أحاديث أخر وصف هذه الجنة، أدخلنا الله وإياكم إياها.