الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن مرداس الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله باله)].
هنا إخبار بما سيكون من حيث الجملة في آخر الزمان، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار خلق الله، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يباليهم الله باله) أي: لا يعبأ الله بهم ولا يقيم الله جل وعلا لهم وزناً، والسبب في ذلك أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، وإنما الأمر على الأعمال الصالحة والإيمان بالله جل وعلا، وهؤلاء لا يعرفون الله طرفة عين، فإنه في آخر الزمان يأتيهم الشيطان فيقول لهم: ألا تستجيبون؟ فيقولون: وبماذا تأمرنا؟ فيدعوهم إلى عبادة الأوثان، فيعبدون الأوثان من جديد، جاء في صحيح مسلم في وصفهم أنهم في سرعة الطير، وأحلام السباع، ومعنى أنهم في سرعة الطير وأحلام السباع أي: في سرعة الطير إلى الشهوات والفساد، وفي أحلام السباع: في البغي والظلم والعدوان والتناحر فيما بينهم، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم عنهم: (ومع ذلك دارة أرزاقهم) أي: يُرزقون ويُطعمون رغم أنهم لا يعرفون الله طرفة عين؛ ولهذا لا يعبأ الله بهم، ولو كان الله جل وعلا يعبأ بهم لابتلاهم بالسراء والضراء، والأخذ والعطاء؛ حتى يردهم إليه لكن أرزاقهم تدار، فحياتهم حسنة ماضية حتى يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور فينفخ، فتقوم عليهم الساعة، هذا كله يدفعنا إلى أن نؤصل في أصل المسألة من الأول.
قال عليه الصلاة والسلام: (يذهب الصالحون الأول فالأول)، فالله جل وعلا خلق أبانا آدم وأدخله جنته، فوقع من آدم المعصية فأهبطه الله إلى الأرض، وأخبره الله أن الشيطان له عدو، ثم كانت ذرية آدم عليه السلام، ومكث الناس عشرة قرون لا يعبدون إلا الله، ثم اجتالتهم الشياطين، فلما اجتالتهم الشياطين بعث الله الرسل، فكان أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام، ثم تتابع الرسل والأنبياء من بعده عليه الصلاة والسلام حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومضت سنة الله أن النبي يبعث إلى قومه خاصة، فلما كان نبينا عليه الصلاة والسلام بعث للناس كافة لم يكن بعده نبي؛ لأن كل الناس تبع له صلوات الله وسلامه عليه أمة دعوة، فمات عليه الصلاة والسلام فبموته دنت الساعة، إذ لا أمة بعد أمته، ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام، ومضى دهر الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم كانت دولة بني أمية وانتشر الإسلام، ثم كانت دولة بني العباس، ومضت دول، ودولة آل عثمان، ثم وقع ما وقع من تناحر بين الأمة فسلط الله الأعداء علينا، وتفرقت الأمة دولاً كثيرة، وهذا كله من حيث الأحداث الزمنية، ويقع أن الصالحين يذهبون الأول فالأول كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني)، فالصالحون في عهده صلى الله عليه وسلم من حيث الجملة أكثر من ناحية العدد، وأكثر صلاحاً وتقى ممن بعدهم، وعلى هذا مضت السنين، ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة، ثم يعود الناس للفساد، ثم ينزل عيسى بن مريم عليه السلام بعد أن يخرج الدجال للناس، كما سيأتي تفصيله، وأنا أتكلم هنا إجمالاً حتى نربط بين قوله عليه الصلاة والسلام: (يذهب الصالحون) بين قوله: (لا يباليهم الله)، وفي هذه الفترة ينزل الدجال، وتكون فتنته ما من فتنة من خلق آدم إلى أن تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال، فينزل عيسى بن مريم واضعاً يديه على أجنحة ملكين كما عند مسلم في الصحيح، فيقتل الدجال، ثم يأمر الله الأرض أن تخرج بركتها، وقبل أن تخرج الأرض بركتها تخرج قبائل يأجوج ومأجوج يفسدون في الأرض، ثم بعد أن يُذهب الله يأجوج ومأجوج ويهلكهم ينزل عيسى والمؤمنون الذين معه من الملكان الذي تحرزوا فيه بجبل الطور، فإذا نزلوا أمر الأرض أن تُخرج بركتها، فلو أن إنساناً أنبت على صفاة لأنبتت، ثم تمضي الأيام بهم والليالي، فيموت الصالحون حتى يبقى أقوام -كما عند حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه- لا يعرفون ما صلاة ولا زكاة ولا صدقة ولا نسك ولا حج، ولا يعرفون إلا كلمة عظيمة جليلة وهي: لا إله إلا الله، وهذا كله معناه أن العلم يُفقد تدريجياً، وأصل الدين كله: لا إله إلا الله فتبقى في قلوبهم، ولو ذهبت لا إله إلا الله فلا ينفع صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج، فإن قال قائل: كيف تنفعهم وهم لا يصلون ولا يزكون؟
و صلى الله عليه وسلم أنهم لا يعلمون ذلك أصلاً، فلم يبلغهم ما صلاة، ولا زكاة، ولا حج، ولا صدقة، ولا نسك، فهذا كله لم يبلغهم فلا يعرفون من الدين إلا كلمة التوحيد، يقول حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيقول الشيخ الكبير والعجوز: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها، فيبعث الله ريح.
وهناك روايتان صحيحتان: رواية أنها ريح تخرج من الشام، ورواية أنها ريح تخرج من اليمن ألين من الحرير.
ويمكن الجمع بين الروايتين على أن هذا يقع من هنا ومن هناك، فهذه الريح يجعلها الله كفيلة بأن تقبض أرواح المؤمنين، حتى ورد في الحديث: أن أحدهم في كبد جبل لا يعلم إلا وقد قدمت إليه هذه الريح ومات، فيبقى هؤلاء القوم الحثالة الذين لا يعبأ الله بهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: (يذهب الصالحون الأول فالأول)، والصلاح يطلق ويراد به أمران: يطلق ويراد به مقابلاً لمواطن أخر أو منازل أخر فيكون الرابع، ومنه قول الله جل وعلا: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69]، فجعلها المرتبة الرابعة بعد النبوة والصديقية والشهادة.
ويطلق ويراد به حتى الأنبياء، وهنا يكون بمنزلته العالية، فإذا ورد مقترناً مع النبوة أو الصديقية أو الشهادة فإنه يراد به رابع المنازل، وأما إذا ورد لوحده فالأصل فيه أنه أعلى المنازل.
ثم هو بذاته درجات قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد صالح، وأرجو أن أكون أنا هو) صلوات الله وسلامه عليه، والله ذكر نوحاً ولوطاً في كتابه فقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم:10]، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ حفصة في حق ابن عمر: (إن أخاك رجل صالح، أو عبد صالح)، وقال في حق سعد بن معاذ: (إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح)، فالصلاح هنا بمعناه الأصلي الرفيع، لكن الناس فيه درجات، وقد قال بعض العلماء: إنه من أعظم المطالب وأسمى الغايات؛ ولهذا سأله الأنبياء ربهم، قال الله جل وعلا على لسان سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فكون أحد أنبياء الله يسأل الله جل وعلا أن يدخله في زمرة عباده الصالحين ففيه دلالة على أن الصلاح من أعظم المطالب وأسمى الغايات، والله جل وعلا مضت سنته في خلقه أن القوة يتبعها ضعف، والضعف يتبعه قوة، فالناس بدأوا بالتوحيد ولم يكن ثمة أعمال قبل الأنبياء، ثم يختمون بالتوحيد على تلك الطائفة، وبينهما ظهر أنبياء ورسل بعثهم الله جل وعلا جماً غفيراً، ثم تكون تلك الحثالة التي لا يعبأ الله جل وعلا بها، وعليهم تقوم الساعة لا بلغنا الله وإياك ذلك اليوم، فرحمة ربنا تبارك وتعالى بالأخيار من خلقه قائمة ثابتة في كل زمان ومكان، وهنا على المؤمن أن يسعى في صلاح نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يذهب الصالحون الأول فالأول)، والإنسان إذا سمع أو بلغه نبأ موت أحد من الناس وعلم أنه صالح تمنى لو كان هو الميت، والإنسان يتحسر على من يموت وظاهره التفريط، والصغائر أمرها إلى الله، لكن من علمنا منه أنه كان على خير ومنهاج مستقيم فقد لا يصيبنا ذلك الحزن؛ لأنا نقول في أنفسنا: ما له عند الله خير مما له عندنا، والإنسان العاقل لا يحرص على شيء أعظم مما يحرص على نفسه؛ فينبغي على المؤمن أن يسعى في صلاح نفسه، وأن يجتهد في ذلك وكلنا مقصر لكن نسأل الله الغفران والتوبة.