أعمال يوم عرفة

قال جابر: (ثم مكث صلى الله عليه وسلم قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة).

ونمرة: مكان بجوار عرفة، وليس من عرفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر تضرب له، أي: خيمة تضرب له في نمرة.

قال: (فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام).

لاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من منى متوجهاً إلى عرفة، وانتظر إلى أن طلعت الشمس، يعني: لم يمش من منى بالليل، ولا مشى من منى قبل الفجر أو بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، وإنما توجه إلى عرفة بعد طلوع الشمس، بخلاف رجوعه من المزدلفة؛ فإنه خرج من المزدلفة ليرمي الجمرة بمنى، وهو راجع إلى منى خرج من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وكأنه بفعله هذا يخالف المشركين، حيث كان المشركون يعكسون، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في المزدلفة خرج بعدما صلى الفجر، ومكث فترة يدعو الله عز وجل على جبل قزح المشعر الحرام، وقبل أن تطلع الشمس خالف المشركين، وتوجه صلى الله عليه وسلم إلى منى.

إذاً: في ذهابه إلى عرفات توجه بعدما طلعت الشمس، وفي عودته من مزدلفة إلى منى عاد قبل طلوع الشمس.

قال: (سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام) أي: عند مزدلفة، ونقول الحرم: مكة حرم منى حرم المزدلفة حرم عرفات من الحل وليست من الحرم، فالقرشيون كانوا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يترك الحرم، وقالوا: هذا رجل من الحمس، أحمسي، والحمس هم متشددون في دينهم، الذين هم القرشيون، قالوا: كيف سيترك مكة ويترك الحرم ويذهب إلى الحل؟! فإن الشيطان زين لهؤلاء أنهم هم أهل الحرم، وأنهم لو خرجوا خارج الحرم فكأنهم صنيعوا هيبة الحرم.

لذلك كانت قريش ومن دان بدينها الذين يلقبون بالحمس كانوا لا يتركون الحرم، وكل الحجاج كانوا يذهبون إلى عرفات والقرشيون لا يذهبون، وكان أقصى شيء يصلون إليه المزدلفة، ولا يذهبون أبعد من ذلك.

روى ابن خزيمة وإسحاق بن راهويه من حديث نافع بن جبير عن أبيه قال: (كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة، ويقولون: نحن الحمس فلا نخرج من الحرم).

يعني: ليس عندهم عرفة، كل الناس يذهبون عرفة وأما قريش فلا يذهبون خارج المزدلفة، فتركوا الموقف بعرفة.

قال جبير: (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له).

ونحن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل هجرته مرتين، فـ جبير يقول: رأيته أيام الجاهلية، يعني: قبل ما يوحى إليه صلى الله عليه وسلم وكان يخرج مع الناس إلى عرفة، وهذا من توفيق الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة، فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا).

وفي رواية لـ ابن إسحاق: (توفيقاً من الله له).

قال جبير في رواية أخرى: (أضللت حماراً لي في الجاهلية فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات مع الناس، فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك).

قال: (فقلت: هذا والله! من الحمس -الذين لا يصلون إلى هذا المكان- فما شأنه هاهنا؟!) أي: ما هو الذي جعله يخرج؟! ولما أسلم جبير بعد ذلك قال: علمت أنه من توفيق الله، أي: أن الله تعالى وفق النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، وهو ما زال قبل بعثته، فكان يقف مع الناس بعرفات، ونزلت الآية: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، فكان صلوات الله وسلامه عليه موفقاً قبل أن يوحى إليه.

يقول جابر رضي الله عنه: (ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام)، فالخارج يخرج من مكة ويتوجه إلى منى، ثم يتوجه إلى عرفات، ثم يرجع من عرفات إلى المزدلفة، ومن مزدلفة يرجع إلى منى، فهم تخيلوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من مكة، ويذهب إلى منى، ثم إلى مزدلفة، ويرجع صلى الله عليه وسلم إلى منى، ولا يذهب إلى الحل في عرفات.

قال: (فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها) أي: أنهم عملوا له عليه الصلاة والسلام خيمة في نمرة، ونمرة: مكان بجوار عرفة.

والسنة دخول عرفة عند وقت الزوال، لكن هذا لا يتيسر الآن لكل الناس، فإنه صعب جداً مع الازدحام الشديد، فكون كل الناس يقعدون في نمرة ثم يدخلون عرفة، هذا صعب، فبحسب ما يتيسر للناس، لكنه صلى الله عليه وسلم نزل في نمرة إلى وقت الزوال، وخطب الناس، ثم دخل صلى الله عليه وسلم.

قال: (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له)، يعني: حط عليها ما يوضع على الجمل من شيء يجلس عليه الراكب.

قال: (فأتى بطن الوادي) يعني: وادي عرنة، وعرنة أيضاً ليس من عرفات.

فهو صلى الله عليه وسلم نزل وادي عرنة وخطب الناس هناك.

قال: (فخطب الناس)، وخطبة النبي صلى الله عليه وسلم هذه واحدة من عدة خطب، واختلف العلماء في: كم خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؟ فالبعض ذكر أربع خطب، والبعض ذكر ثلاث خطب له صلى الله عليه وسلم.

وهذه الخطب إرشاد وتعليم للناس بالمناسك، والآن ليس موجوداً من هذه الخطب إلا خطبة عرفة فقط، وفي أيامه صلى الله عليه وسلم كان الناس يحضرون ويسمعون منه صلى الله عليه وسلم هذه الخطب، وأما الآن فكأنهم استغنوا عن ذلك بالدروس التي في الحرم، والتي في منى لتوعية الناس؛ لأنه يصعب حضور الناس كلهم، وحتى في خطبة عرفة لا يحضرها كل الناس، فحضور الناس كل الخطب يصعب، فهنا أربع أو ثلاث خطب خطبها النبي صلى الله عليه وسلم.

الخطبة الأولى: كانت في اليوم السابع من ذي الحجة الذي هو قبل يوم التروية، خطب الناس خطبة تعليمية، علم الناس المناسك التي يفعلونها.

والخطبة الثانية: كانت في يوم عرفة خطبها بنمرة قبل أن يصلي الظهر والعصر جمع تقديم، فخطب بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإمام يفعل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

والخطبة الثالثة وهي سنة عند الشافعية والحنابلة: أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى، وهذه ليست خطبة العيد، فخطبة العيد شيء آخر لمن يصلي العيد، لكن هذه الخطبة أيضاً تعليمية؛ يعلم الناس المناسك التي في يوم الحج الأكبر، وهي خطبة واحدة يعلم الناس فيها مناسكهم من النحر والإفاضة والرمي؛ لما روى ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر)، يعني: بمنى.

وذهبت الحنفية والمالكية إلى أن هذه الخطبة تكون يوم الحادي عشر من ذي الحجة لا يوم النحر، يعني: أنه في يوم النحر يكون الناس مشغولين بالعبادة وليسوا متفرغين للخطبة.

ولكن جاء عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في هذا اليوم).

فتكون هذه الخطبة سنة.

الخطبة الرابعة: أن يخطب الإمام في الناس بمنى ثاني أيام التشريق، الذي هو يوم النفر الأول، من أجل أن يبين لهم كيف ينفرون، فينفر هذا اليوم من أراد النفر، ولا يمكث إلى أن تغرب عليه الشمس، فإذا غربت عليه الشمس لزمه المبيت هناك.

وخطبته صلى الله عليه وسلم في عرفات قال فيها: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوعة، ودماء الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث؛ كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله.

فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربونهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.

وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات، ثم أذن، ثم أقام فصلى صلاة الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً).

والذي أذن هو مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: ثم أمر بالأذان.

فهذه الخطبة فيها: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، فالأصل أن دم المسلم محرم على أي إنسان، فيحرم عليه أن يسفك دمه، إلا بما جاء فيه نص من الكتاب أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما جاء في ذلك: (الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).

كذلك يحرم مال المسلم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه).

وقوله: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، فهذا البلد حرام، وهذه الأشهر حرم، واليوم يوم الحج يوم عرفة من أعظم الأيام، فكما يحرم عليكم أن تعتدوا في هذا المكان في هذا الوقت، وفي هذه الشعيرة، فكذلك حرمة دم المسلم وماله وعرضه.

وقوله: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)، في هذا إلغاء كل ما كان في الجاهلية من باطل الجاهلية.

قال: (ودماء الجاهلية موضوعة)، أي: ما كان من أشياء بين الناس من سفك دماء في الجاهلية كله موضوع، وأمر الجاهلية كله التغى ويستأنفون العمل من الآن.

قال: (وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل)، و

طور بواسطة نورين ميديا © 2015