قال جابر رضي الله عنه: (حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة).
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى المزدلفة، وهنالك صلى صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ثم نام صلوات الله وسلامه عليه إلى الفجر، ولما طلع الفجر صلى صلاة الفريضة -صلاة الصبح- بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، وهذه الصلاة في هذا اليوم بكر صلى الله عليه وسلم بها، يعني: كانت العادة أنه يؤذن المؤذن وينتظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يجتمع الناس، وأما هنا فأذن المؤذن وصلى ركعتين وأقام الصلاة مباشرة، فلما طلع الفجر صلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة.
قال (ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده)، يعني: دعا ربه سبحانه، فمن السنة الوقوف على المشعر الحرام، وهو جبل قزح، وأي مكان يقف فيه في المزدلفة فكله جائز، وتسمى المزدلفة، وتسمى أيضاً بجمع، ويسمى المكان الذي يقف فيه المشعر الحرام أو جبل قزح.
والمزدلفة سميت من التزلف والازدلاف؛ لأن الحجاج يقدمون من عرفة ويقربون عليها، فكأنهم يزدلفون إليها، أي: يمضون إليها ويتقربون منها، وتسمى بجمع لاجتماع الناس هنالك، فالحجيج يجتمعون في المزدلفة، والبيات في المزدلفة هذا من الواجبات في الحج، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسبح بين الصلاتين دليلاً على أن السنة إذا صلى المغرب لا يصلي سنة المغرب، وصلى العشاء وبعد ذلك نام صلوات الله وسلامه عليه.
فإن قيل: الوتر في هذه الليلة هل يصلى أو لا يصلى؟ هنا لم يذكر في هذا الحديث، وكأن الراوي لم ينتبه هل صلاه النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يصله، لكن قال لنا فقط: (لم يسبح بين المغرب والعشاء)، فعلى ذلك لا يضيع الإنسان الوتر؛ لأن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يترك الوتر ولا ركعتي الفجر لا في سفر ولا في حضر، فالأصل العموم في ذلك.
قال: (حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً) يعني: وقف على جبل قزح في المشعر الحرام فدعا الله سبحانه، وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر، والإسفار: أن يبدأ كل إنسان يعرف من بجواره، أي: فيه إضاءة، لكن الشمس ما طلعت، ولا زالت تحت الأفق، ففي وقت الفجر يظهر شعاع بسيط يخرج منها ويبقى منكسراً فوق الأفق، وتكون السماء كلها مظلمة، ولا ترى من بجوارك، ووقت الإسفار كأن الشمس قربت تطلع وما زالت تحت الأفق، والإشعاعات التي تطلع تنعكس فوق سطح الأرض، ويتغير لون السماء، فبعد ما كانت سوداء تتحول إلى الزرقة، وإذا بالإنسان يرى من بجواره.
قال: (حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس)، وهذا هو الذي قدمناه: أنه خالف أهل الجاهلية، فقد كان أهل الجاهلية يقفون وينتظرون حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون لجبل هناك اسمه ثبير أعظم الجبال الموجودة هناك: أشرق ثبير كيما نغير، يعني: اطلعي يا شمس! فنحن نريد أن نمشي، وأن نتحرك بسرعة من المكان، أو كيما نغير، بمعنى: أن نلحق نأكل الذبائح التي سنذبحها هنالك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينتظر طلوع الشمس، ولكن خرج في وقت الإسفار قبل أن تطلع الشمس وتوجه عليه الصلاة والسلام إلى منى.
قال: (وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ضعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل؛ يصرف وجهه من الشق الآخر، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً).
يعني: أن الفضل كان راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فمرت مجموعة من النساء -ضعن- يجرين، فنظر إليهن، فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على وجهه حتى لا ينظر، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير لذلك، حتى ولو كان هذا قريباً، وحتى لو كان الإنسان يظن أنه ليس منتبهاً، حتى لو كان الإنسان في المناسك وغلبة الظن أن الذي يفعل هذا ليس منتبهاً ولا يريد أن يعصي الله عز وجل في هذه الأماكن، ولكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
قال: (حتى أتى بطن محسر)، وبطن محسر: واد قريب من المزدلفة، يواجهك وأنت متوجه من مزدلفة إلى منى؛ سمي بذلك لأن الله عز وجل حسر أصحاب الفيل فيه، قال عز وجل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5]، وحسر الفيل في هذا المكان، يعني: أعيا وتعب وما قدر أن يمشي من هذا المكان.
ففي هذا المكان عذب هؤلاء الكفار، فالنبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يجري في المكان الذي كان فيه عذاب يوماً من الأيام، فالسنة أن الذي يصل إلى هذا المكان -بطن محسر- أن يجري بحيث إنه يتجاوزه سريعاً.
قال: (فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف).
الحصى الذي رمى به النبي صلى الله عليه وسلم حصى صغير قدر الفولة وأكبر من الحمص أو بقدر الباقلا التي هي حبة الفول، وقوله: (مثل حصى الخذف) لأن الغلمان أو الأطفال الصغار، يخذف أحدهم بها، فيحطها على أصبعه ويضربها بإصبعه الثانية.
فمن أجل أنه يصنع شيئاً صغيراً جداً يفعل به هكذا، ولذا سميت حصى الخذف، فجمع سبع حصيات صغيرة.
يقول: (رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة)، يعني: أن السنة في هذا اليوم أن ترمي جمرة العقبة التي هي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، والسنة التكبير مع كل حصاة.
قال: (رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده) عليه الصلاة والسلام ومجموع النوق التي كانت معه مائة، هذه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فنحر ثلاثاً وستين، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العام ثلاثاً وستين سنة؛ فكل سنة من عمره بواحدة نحرها صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (ثم أعطى علياً فنحر ما غبر) أي: أعطى علي بن أبي طالب فنحر السبع والثلاثين الباقية، وأشركه في هديه صلى الله عليه وسلم.
قال: (ثم أمر من كل بدنة ببضعة) يعني: قطعة من اللحم، بحيث إنه يأكل منها؛ ليري الناس أن السنة أن تأكل من هديك.
قال: (فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت).
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة، وبعد ذلك نحر صلوات الله وسلامه عليه، ذكر هنا في هذه الرواية: أنه أفاض بالبيت عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر الحلق هنا، مع أنه قد حلق النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه).
وفي رواية أخرى للترمذي عن علي بن أبي طالب ذكر فيها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحرك -أي: من عرفات- نظر إلى الناس وهو يقول: يا أيها الناس! عليكم السكينة، ثم أتى جمعاً -أي: المزدلفة- فصلى بهم الصلاتين جميعاً، فلما أصبح أتى قزحاً فوقف عليه وقال: هذا قزح، وهو الموقف، وجمع كلها موقف)، وهذا للتيسير على الناس، فلو كل الناس ذهبوا يقفون على قزح يصعب عليهم ذلك، ولكن قال: المزدلفة كلها أينما تنتقل فيها فهي موقف.
قال: (ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فخبت -يعني: جرت قليلاً- ثم أتى المنحر فقال: هذا المنحر، ومنى كلها منحر، قال: واستفتته جارية شابة من خثعم، فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال: حجي عن أبيك، قال: ولوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله! لم لويت عنق ابن عمك؟).
يعني: كأن المرأة كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وكأن الفضل كان يريد أن يسمع السؤال والجواب، وخشي عليه النبي صلى الله عليه وسلم الفتنة، فوضع يده على وجهه وصرفه، فـ العباس يسأل: لماذا تفعل هذا مع ابن عمك؟ فقال: (رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما، قال: وأتاه رجل فقال: يا رسول الله! إني أفضت قبل أن أحلق؟)، يعني: أن السنة أولاً الحلق، وبعد ذلك الذهاب للطواف بالبيت طواف الإفاضة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (احلق أو قصر ولا حرج، وجاء آخر فقال: يا رسول الله! إني ذبحت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم ولا حرج، قال: ثم أتى البيت فطاف به، ثم أتى زمزم فقال: يا بني عبد المطلب! لولا أن يغلبكم الناس عنه لنزعت).
هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صفة حجة الوداع، وبقي تفصيل في صفة الحج، نذكره في حديث آخر إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.