هنا السنة: الإهلال بالحج في يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة هذا إن كان يجد الهدي يعني: يقدر أن يشتري الهدي أو هو معه أو يدفع الشيكات لمن يهدي عنه، فيكون على ذلك لا يوجد بدل من الهدي وهو الصوم، لكن إذا عدم الهدي كأن يكون فقيراً غير قادر على شرائه، فيلزمه الآن البدل، وهو الصيام، فيستحب له أن يقدم الإحرام بالحج احتياطاً وخروجاً من الخلاف، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه أمر أحداً من الصحابة أن يقدم الحج على يوم التروية، ولكن اخترنا ذلك احتياطاً في المسألة؛ لأن العلماء اختلفوا في معنى الآية: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] ما هي الثلاية الأيام في الحج، فكثير من العلماء على أنه ما دام متلبساً بمناسك الحج فيبقى على ذلك، ويصوم من قبل يوم التروية، يصوم يوم السادس والسابع والثامن سواء أحرم بالحج أم لم يحرم، ومن هؤلاء الحنابلة، وقالوا: إنه يستحب له أن يقدم الإحرام خروجاً من الخلاف في هذه المسألة، وعند الشافعي وغيره فسروا ذلك على أنه ثلاثة أيام في الحج وهو متلبس بالمناسك، فيجب عليه إذا كان سيؤدي البدل وهو الصوم أن يحرم بالحج ابتداء ويصوم ثلاثة أيام وهو متلبس بالإحرام، لذلك قلنا هنا: إنه إذا كان عادماً للهدي يستحب له، والقول الآخر: أنه يجب عليه ذلك، والراجح: أن هذا استحباب فقط؛ لأنه مبني على تفسير الآية، فالراجح في معناها: أنه يصوم ثلاثة أيام في أشهر الحج إن كان عادم الهدي، ويستحب له تقديم الإحرام بالحج قبل اليوم السادس؛ لأن فرضه الصوم، وواجبه ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع، فقلنا: يستحب تقديم الإحرام بالحج، قال الإمام مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر: لا يجوز الصيام إلا بعد الإحرام بالحج، واحتجوا بقول الله عز وجل: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196] قالوا: لأنه صيام واجب.
والحنابلة احتجوا بأنه أحرم بالعمرة فيكون هنا يلزمه الهدي لسببين: السبب الأول: العمرة التي كانت في أشهر الحج.
السبب الثاني: الحج، فعلى ذلك يلزمه الصيام، وإن كان سيشكل على قولهم تصويبهم لقول الشافعية في أنه يجوز له أن ينحر هديه قبل يوم العيد، فطالما أنه أحرم بأحد النسكين وتقدم أحد النسكين فيجوز له أن يذبح قبل العيد، وهو اختيار الشافعية، وإن كانوا يستحبون ألا يذبح إلا يوم العيد، فهذه المسألة في النحر قبل العيد باعتبار أن سبب النحر هو للعمرة والحج.
والجواب -وهو الذي عليه الجمهور-: أنه صحيح تقدم أحد السببين وأن الهدي سببه الاثنان، فلما وجد أحدهما فلا بد من هدي، لكن مع ذلك لم تلتفت الشريعة إلى ذلك، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه أن ينحر قبل يوم العيد، فوجد السبب، ووجد المقتضي لذلك، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً أن ينحر، فدل ذلك على أن الذبح مختص بالعيد، لكن يصح أن يصوم قبل ذلك، وهل يجب أن يكون متلبساً بالإحرام؟ مع كثرة من كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فلم يثبت عنه أنه أمر أحداً منهم أن يقدم الإحرام لأجل الصيام، والقليل منهم كان معهم الهدي، فيكون وجب عليهم الصيام، فلو كان يجب تقديم الإحرام حتى يصوموا لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، أو أمر هؤلاء أن يقدموا الإحرام ويصوموا الثلاثة الأيام حتى لا تفوت أيام الحج، فلما لم يأمر بذلك دل على أن هذا ليس واجباً، فسنة المتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية، وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين أحلوا من إحرامهم بعمرة، وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: (أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن) البدن يعني: الجمال، وسميت البدن لأنها أبدان ضخمة (وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم: أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا، ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟! فقال: افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، لكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله) وهنا قوله (ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج) مع إن الكثيرين كانوا ليس معهم هدي، والذي معه هدي هو النبي صلى الله عليه وسلم ومجموعة من أصحابه، لكن الأغلبية ليس معهم هدي، وكلهم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتمتعوا، فكان الأكثرون هم المتمتعون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأمر أحداً أن يقدم الإحرام قبل يوم التروية حتى يصوم، فدل على أن تقديم الإحرام ليس واجباً، والصيام الواجب يجوز ولو لم يقدم الإحرام.
وأجمع العلماء على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج فله أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، والذي أهل بعمرة في أشهر الحج له أن يدخل عليها الحج، والذي فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج من المدينة مهلاً بالحج وأدخل العمرة صلى الله عليه وسلم والعمرة أقل، ولكن فعله صلى الله عليه وسلم كان عند الميقات أو بعد الميقات بشيء يسير، فإذا كانت العمرة - وهي الأقل - أدخلت على الأكثر فيجوز إدخال الأكثر على الأقل وهو الحج، والعلماء أجمعوا على أنه يجوز إدخال الحج على العمرة، فمن أهل بعمرة في أشهر الحج فله أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وأما بعد افتتاح الطواف فليس له ذلك، أي: فليس له أن يدخل عليها الحج، فإدخال الحج على العمرة إجماع على أنه جائز بشرط ألا يكون بدأ في الطواف، والعكس إدخال الأقل على الأكثر يعني: أراد الحج ولبى هل يدخل عليه العمرة؟ الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك ولكن أيضاً يقال: إنه كان من وادي العقيق، وهذا قريب من ذي الحليفة، وكأنه عند إحرامه صلى الله عليه وسلم لم يعمل شيئاً من المناسك وإنما هو مجرد الإحرام فأمر بذلك، فيجوز مثل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان عند الميقات وقال: لبيك حجة، فجاز له أن يدخل عليه العمرة فيقول: لبيك حجة وعمرة، أما بعد ما يصل إلى البيت فليس له أن يدخل العمرة على الحج، وعند أبي حنيفة يجوز أن يدخل العمرة على الحج مطلقاً، ويصير قارناً وعليه دم القران.