أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يسق الهدي أن يحل يدل على أن التمتع أفضل، إذ لو كان ما هم فيه أفضل لتركهم صلوات الله وسلامه عليه، لكن من ساق الهدي فالأفضل له أن يظل على ما هو عليه، سواء كان مفرداً أو قارناً، فالراجح هو أن الأفضل القران لمن ساق الهدي؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحج بعد هجرته إلا مرة واحدة، ولا يكون حجه فيها إلا بأفضل ما يكون، وكانت آخر حجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بحجة الوداع، وكان يقول: (لعلي لا أحج بعد عامي هذا) فكونه يحج حجة واحدة فيفعل فيها ذلك، فهذا يدل على أنه أفضل ما يكون من المناسك، ولذلك قلنا: إن أفضل المناسك القران لمن ساق الهدي، ومن لم يسق الهدي يكون أفضل المناسك له التمتع؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم تمنى ذلك.
لم يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت على إحرامه، قال جابر: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نحل، وقال: أحلوا وأصيبوا من النساء، ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنا نقول: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نحل! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون فحلوا، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، فحللنا وسمعنا وأطعنا).
قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) يعني: أنه نقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك، فدل على فضل التمتع؛ لأنه تمناه النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: من لم يسق الهدي فالأفضل في حقه التمتع؛ لأن التمتع منصوص عليه في القرآن، قال الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] ولأن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة فمن ضمن المرجحات للتمتع: أن المتمتع يأتي بعمرة كاملة ويأتي بحج كامل، ولا يدخل منسك في منسك.
لكن قد يقال في ذلك: إن المتمتع استمتع بأنه كان حلالاً ولم يكن عليه مشقة بين العمرة إلى الحج.
أما القارن فإنما يأتي بأفعال الحج، وتدخل أفعال العمرة فيه.
أما المفرد: فهو يأتي بالحج وحده، وإن اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام، والراجح أنها مجزئة ولكن فيها خلاف، والأمر الذي ليس فيه خلاف أفضل من الذي فيه خلاف.
أما جواز أنواع النسك كلها فيدل عليه حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج)، وأجمع العلماء على أنه تجوز المناسك الثلاثة، فلا وجه للمنع من واحد منها إلا التفضيل، ثم قالت: (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالحج، أو جمع الحج والعمرة لم يحل حتى كان يوم النحر) وهذا الحديث في الصحيحين.
وفي رواية مسلم: (منا من أهل بالحج مفرداً، ومنا من قرن، ومنا من تمتع) يعني: نصت على أنواع المناسك التي أجمع العلماء بعد ذلك عليها.
وفي رواية للبخاري: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم كان أهل بالحج حتى قيل له في وادي العقيق: (صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة) يعني: أدخل العمرة على الحج.
وفي الحديث هنا: (فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة لم يحل حتى كان يوم النحر)، وهذا من المرجحات لأفضلية التمتع، أما المرجحات للقران فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، أما الذين رجحوا الإفراد، وهذا هو مذهب الشافعي فقالوا: إن الإفراد أفضل باعتبار أنه سيسافر للحج، وأنه سيسافر سفراً آخر للعمرة، فقالوا: هذا فيه مشقة أكثر، فيكون الإفراد أفضل، واحتجوا أيضاً بأن الصحابة كلهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو أكثرهم وهم ينوون الحج، ثم أمرهم بالفسخ بعد ذلك، وهو نفسه صلى الله عليه وسلم أول ما خرج كان ينوي الحج، حتى قيل له في وادي العقيق: (قل عمرة في حجة).
وفي حديث عائشة رضي الله عنها (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج) وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج).
وفي رواية في الصحيحين: قالت: (خرجنا لا نرى إلا الحج) إلى آخر الحديث.
أما من رجح القران فقد احتج بقول الله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وهذا مشهور عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك) أي: أن تحرم بالاثنين مع بعض.
وبما رواه مسلم عن بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده، قال بكر: فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبياناً، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عمرةً وحجاً) وصدق الاثنان: صدق أنس وصدق ابن عمر، فـ ابن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج فقط، وأنس كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وتحت ناقته فسمعه وهو بالعقيق يهل بالاثنين.
وفي حديث آخر أن الذي سمعه في العقيق هو عمر رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرةً في حجة).
فـ عبد الله بن عمر شاهد البداية، وأنس بن مالك شاهد بعد ذلك لما أدخل العمرة على الحج صلوات الله وسلامه عليه.
وروى مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه).
وروى أبو داود والنسائي عن الصبي بن معبد قال: (كنت رجلاً أعرابياً نصرانياً فأسلمت فأتيت رجلاً من عشيرتي يقال له: هذيم بن ثرملة فقلت له: يا هناه -يعني: يا هذا- إني حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، فكيف لي بأن أجمعهما؟ قال: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، فأهللت بهما معاً، فلما أتيت العُذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جميعاً، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيره، قال: فكأنما ألقي علي جبل، حتى أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت له: يا أمير المؤمنين إني كنت رجلاً أعرابياً نصرانياً، وإني أسلمت وأنا حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، فأتيت رجلاً من قومي فقال لي: أجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، وقد أهللت بهما معاً، فقال لي عمر رضي الله عنه: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم).
هنا في هذا الحديث أن الرجل قال: (إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين).
ولم يخطئه عمر رضي الله عنه، بل قال له عمر: (هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم) وهذا كان قارناً بين الحج والعمرة، فصوبه فيما صنعه.
وفي الصحيحين عن حفصة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: إن لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لكونه ساق معه الهدي عليه الصلاة والسلام لم يحل.
قوله: (إن لبدت رأسي) تلبيد الرأس: هو وضع شيء من الصمغ على شعر الرأس، خاصةً إذا كان طويلاً، وهذا التلبيد يمنع دخول الهوام فيه.
إذاً: الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً بالحج مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة فصار قارناً صلى الله عليه وسلم، للحديث (صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرةً في حجة).
فمن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً أراد أول الإحرام مثل ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومن روى أنه كان قارناً مثل ما جاء عن أنس اعتمد آخره، لما قيل له: (قل عمرة في حجة)، ومن روى أنه كان متمتعاً فليس المعنى أنه أحل، وإلا كان هناك تناقض بين الأحاديث، وإنما قصد التمتع اللغوي، يعني: أنه أسقط أحد نسكيه، وعمل واحداً يجزئ عن الاثنين؛ لما فيه من التخفيف، فهو فعل أفعال الحج ودخلت فيه العمرة من غير إعادة لها بأفعال أخرى، فسماها تمتعاً بذلك؛ لأنه أسقط أحد نسكيه عن نفسه بفعل النسك الآخر.