في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً.
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يتحللوا ويجعلوها عمرة؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن من أفجر الفجور أن تعتمر في أشهر الحج، فكان هذا الأمر مستقراً في نفوس الكثير من الناس، فحج مع النبي صلى الله عليه وسلم أعداد كثيرة، فخرج معه من المدينة ألوف، ولما وصل إلى مكة كانوا أعداداً غفيرة مع النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا من أماكن شتى؛ لأنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحج فأحبوا أن يحجوا معه، فأراد أن يعلم هؤلاء جميعهم أنه يجوز العمرة في أشهر الحج، فكانت وسيلة ذلك أن يأمر الجميع أن يحلوا الإحرام وأن يجعلوها عمرة؛ لبيان جواز فسخ الحج إلى العمرة، ثم يحرمون بعد ذلك بالحج.
إذاً: أراد أن يبين لهم أنما كان يقوله أهل الجاهلية، هو كلام باطل، وأنه يجوز في أشهر الحج أن تعتمر، وأن تكون متمتعاً.
لذلك فإن ابن عباس يبين لنا في هذا الأثر الذي في الصحيحين أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً، من أجل أن يقاتل بعضهم بعضاً في هذا الشهر، وهذا هو النسيء الذي قال عنه الله عز وجل: زيادة في الكفر، وكانوا يقولون قولاً مسجوعاً من أجل أن يقعدوا قاعدة من قواعدهم الباطلة، قال ابن عباس: ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر يقولوا هذا الشيء من أجل أن يقننوا قانوناً بهذا الكلام المسجوع الذين يقولونه.
قوله: (إذا برأ الدبر) يعني: البعير لما يركب عليه أثناء موسم الحج ذهاباً وإياباً تحصل له جروح في ظهره، هذا هو الدبر (وعفا الأثر) أي: أثر المسير في الحج.
قوله: (وانسلخ صفر) يعني: كانوا يسمون شهر المحرم صفراً، قوله: (حلت العمرة لمن اعتمر) يعني: لا تصح العمرة في أشهر الحج.
ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: حل كل)، يعني: حل الإحلال الكامل من العمرة، إذا أديت العمرة تصير حلالاً، ويجوز لك أن تقلم أظفارك وأن تقص شعرك وأن تأتي النساء.
أيضاً: في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك بالحج) يعني: كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مفردين للحج، يقولون: لبيك حجاً، ثم قال: (فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة).
وفي رواية أخرى (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وقدم علي من اليمن ومعه الهدي، فقال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا، إلا من كان معه الهدي).
فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، وحاضت عائشة رضي الله عنها فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت فقالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج).
في هذا الحديث أنهم أنكروا وتعجبوا وقالوا: كيف نأتي النساء ونذهب إلى منى بعد ذلك، وهذه العلة التي ذكروها عرفها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أمرهم بأن يحلوا، فإن علل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كراهته للتمتع لهذا السبب فالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة على من منع بهذه العلة؛ لأن العلة عرفها النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك أمرهم أن يحلوا من حجهم وأن يجعلوها عمرة، ثم يحرمون بعد ذلك بالحج.
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج وحُرم الحج فنزلنا بسرف، قالت: فخرج إلى أصحابه فقال: من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا).
والحديث الذي جاء قبل ذلك عن جابر قال: (ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك بالحج) يعني: أنهم أهلوا بالحج، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء المهلين بالحج: (من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل).
فقالت عائشة رضي الله عنها: (فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه، قالت: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجال من أصحابه، فكانوا أهل قوة، وكان معهم الهدي فلم يقدروا على العمرة) يعني: طالما أنه ساق الهدي وهو قد نوى الحج فليس له أن يفسخ الحج إلى عمرة؛ لأن معه الهدي، كذلك، من كان قارناً مثل النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يتحلل بعمرة؛ لأنه ساق معه الهدي.
إذاً: من كان معه الهدي ولبى بالحج فليس له أن يفسخ إلى عمرة.
وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج وأهللنا به معه، فلما قدمنا مكة قال: من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم هدي، فقدم علينا علي بن أبي طالب من اليمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بما أهللت فإن معنا أهلك؟ يعني: السيدة فاطمة كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأمسك فإن معنا هدياً).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن معنا أهلك) يعني: لو أن إهلالك إهلال بعمرة لكان ذلك الإهلال بعمرة لك، لكن مادام أنك أهللت بحج وأنت معك الهدي فليس لك أن تفسخ هذا الحج؛ لأنك سقت الهدي معك، وكان إهلاله رضي الله عنه معلقاً، حيث قال: (أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك) يعني: ابق على إحرامك، وليس لك أن تأتي النساء، (فأمسك فإن معنا هدياً).
هذه الأحاديث المتفق عليها فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نقل من لم يسق الهدي من الإفراد والقران إلى المتعة.