يقول: الحديث الحسن وهو في الاحتجاج به كالصحيح عند الجمهور.
إذاً: بعض أهل العلم قالوا: إن الحديث الحسن ليس بحجة، ولكنهم لما تكلموا عن هذا تكلموا عن الحديث الحسن لغيره، لا الحسن لذاته.
قال: (وهذا النوع لما كان وسطاً بين الصحيح والضعيف في نظر الناظر لا في نفس الأمر)، والجملة هذه قد تكلمنا عنها وبيناها لما جئنا للحديث الصحيح، وقلنا: إن مسألة التصحيح والتضعيف محل اجتهاد، فالمجتهد ينظر في الشرط، وينظر في الراوي، فيقول: الشرط الفلاني ينطبق هنا، وغيره يقول: لا ينطبق، فالمسألة محل اجتهاد.
ولذلك تجد غالباً أن أئمة النقد يختلفون في راوٍ واحد، فبعضهم يوثقه، وبعضهم يضعفه.
بل الناقد الواحد تجد له قولين أو ثلاثة في الراوي الواحد، يقول عنه مرة: ثقة، ومرة: صدوق، ومرة: ضعيف، وهذا ناقد واحد يصدر منه على راوٍ واحد هذه الأحكام الثلاثة.
فربما كان ثقة فتغير واختلط حتى خرف؛ فقال عنه أولاً قبل الاختلاط: ثقة، وقال بعد الاختلاط: ضعيف، وربما كان ضعيفاً أو صاحب بدعة فتاب الله عز وجل عليه فاستقام على مرويات أهل السنة والجماعة.
وربما ظن الناقد أن هذا الراوي أخطأ في هذا الحديث؛ فحكم عليه، فلما تبين له أنه هو الذي وهم رجع عن حكمه بتعديله مرة ثانية وغير ذلك، وهذا محله البحث في علم الجرح والتعديل، وليس في علم المصطلح.
فهو هنا يقول: لما كان الحديث الحسن وسطاً بين الصحيح والضعيف في نظر الناظر، يعني: في محل اجتهاده، لا في نفس الأمر، يعني: ليس بلازم أن يكون اجتهاد المجتهد يوافق الواقع.
بمعنى أننا الآن نقول: إن الشيخ الألباني مثلاً ضعَّف حديثاً، فهل ضعفه لأنه عرف حقيقة هذا الحديث، أم أنه طبق القواعد المعروفة في علم الحديث؟ يعني: هل الشيخ الألباني رأى النبي عليه الصلاة والسلام وسمعه أو علم أنه لم يقل هذا الكلام؟
صلى الله عليه وسلم لا، وإنما طبق قواعد علم الحديث المعروفة.
والحقيقة أن هناك مجموعة من القواعد اصطلح عليها المحدثون، واتفقوا على أن هذه القواعد لازمة لأن يكون الحديث صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، فإذا توافرت هذه الشروط صح الحديث، وإذا لم تتوافر واختل واحد منها كان الحديث ضعيفاً أو حسناً.
والقواعد هذه موجودة لدى الأولين، ولا تحتاج إلى اجتهاد المعاصرين، وإنما اجتهاد المعاصرين يكون في إنزال هذه القواعد على الواقع الموجود أمامنا، وعلى الإسناد الموجود أمامنا، وأنا عندما أنزل هذه القواعد على الإسناد الموجود أمامي أحياناً أصيب، وأحياناً أخطئ، فليس بلازم من إطلاق المحدث: هذا حديث صحيح، أو هذا إسناد صحيح أن يكون صحيحاً في نفس الأمر، بمعنى: أن يكون ثابتاً يقيناً عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهل يقسم المرء أو يحلف بالطلاق أن هذا الحديث قاله النبي عليه الصلاة والسلام؟ وإذا طلق لم يحنث؟ المسألة مخيفة.
فإذاًَ: الأمر يتوقف فقط عند حد الاجتهاد في تطبيق القواعد، فإذا انطبقت صح، وإذا لم تنطبق أو اختل واحد منها رد هذا الخبر، أو أتينا له بوصف آخر.
ولا يعني هذا الاجتهاد أن النتيجة النهائية التي سنخرج بها لابد وأن تكون حتمية؛ لأنه يمكن أن أحكم على حديث بأنه صحيح وهو في الحقيقة ضعيف، ويمكن أن أحكم عليه أنه ضعيف وهو في الحقيقة صحيح؛ لأنه أتى من غير وجه، وأنا لم أقف على هذه الأوجه، أو لأنني أخطأت في تطبيق هذه القواعد على الإسناد الموجود أمامي.
وعكس ذلك ما لو حكمت على إسناد بأنه إسناد صحيح، وخفي علي أن هذا الراوي بعينه مدلس، وقد عنعن، وأنا لم أنتبه إلى هذه المسألة، فحكمت بأن هذا الإسناد صحيح؛ لأني نظرت في كتب التخريج فوجدت أن جميع الرواة ثقات.
ومثلاً: الزهري إمام ثقة جبل من جبال الحفظ، إلا في فلان فإنه ضعيف فيه، فهذا التفصيل ليس موجوداً في كتاب التقريب، فأنا عندما أرى في السند أجد أن رواية الزهري التي أمامي من نفس الطريق التي ضعف فيها عن شيخه، ولكني لم أنتبه، فـ الزهري إمام، والقضية كلها عن الزهري، وأنا أعرف أن الزهري من الشهرة والمكانة المرموقة في العلم في الدرجة الأسمى، ففي هذه الحالة عيب أن أبحث عن الزهري، مثلما لا أبحث عن أحمد بن حنبل، أو سعيد بن المسيب، أو غيرهم؛ لأنه من العيب بمكان أن أكون طالب علم حديث وأبحث عن البخاري أهو ثقة أم لا؟ لأن هناك أموراً كالمسلمات.
وأحياناً تخفى نقطة خفية دقيقة جداً على الباحث أو على العالم؛ فيحكم لأول وهلة بأن هذا إسناد صحيح.
نحن كنا نقول للشيخ الألباني مثلاً: حديث فلان -يا شيخ- صحيح أم ضعيف؟ فيقول: أين هو؟ فأقول: في مسند أحمد مثلاً، يقول لي: اقرأ السند، فنقرأ عليه السند: قال أحمد: حدثني فلان وفلان؛ فيقول: هذا إسناد صحيح، نقول: يا شيخ! مع أن فلاناً لم يصرح بالتحديث وهو مرمي بالتدليس؟ فيقول: لم يرم بالتدليس، فآتي بترجمته م