باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فقد تعرضنا من قبل إلى تقسيم الحديث إلى مقبول ومردود، وقلنا: إن المردود هو الضعيف بجميع أنواعه، والمقبول هو الصحيح والحسن.
وقلنا: إن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته وصحيح لغيره، والحسن كذلك ينقسم إلى: حسن لذاته وحسن لغيره.
ولما فرغنا من الحديث الصحيح لذاته، وأنه هو الذي استجمع شروط الصحة في نفسه، وهي: اتصال السند، وعدالة الرواة، وضبطهم، وانتفاء الشذوذ، وانتفاء العلة، وتكلمنا عن كل واحد من هذه الشروط بما فيه غنية وكفاية ننتقل اليوم -بإذن الله تعالى- إلى الحديث الحسن.
والحديث الحسن كما سبق معنا هو نوع من أنواع المقبول، ومعنى أن الحديث مقبول: أنه يلزم الاحتجاج به؛ وبذاته تقوم به الحجة؛ لأنه مقبول، وما دام كذلك فإنه محل تشريع.
والحديث الحسن اختلف فيه أهل العلم اختلافاً عظيماً جداً أعظم من اختلافهم في الحديث الصحيح، وكنا قد ذكرنا من قبل في شروط الصحيح، وقلنا: إن هذه الشروط الخمسة هي الشروط المتفق عليها عند المحدثين جميعاً، وهناك شروط مختلف فيها، وشروط غير معتبرة، كما شرطت المعتزلة: أن يوافق العقل، وهذا شرط في غاية البطلان والفساد.
أما الحديث الحسن فإذا كنا سنحدد من الآن أننا نريد أن نضع حداً للحسن لذاته أو لغيره فسيوفر علينا كثيراً من التعب والمشقة، ونحن الآن نريد أن نعرف الحديث الحسن لذاته، وهذا يتناسب مع تعريف الصحيح لذاته.
أقول: إن تعريف الحسن قد اختلف فيه أهل العلم اختلافاً كثيراً جداً، فـ للترمذي تعريف، وللخطابي تعريف، ولـ ابن الصلاح تعريف، وللحافظ ابن حجر تعريف، ولـ ابن جماعة تعريف، وللسيوطي تعريف، وللسخاوي تعريف، تعريفات كثيرة جداً للحديث الحسن؛ لأن الحديث الحسن هو حلقة وسط بين الصحيح الذي لا خلاف على صحته، وبين الضعيف الذي يمكن أن يرتقي أو لا يرتقي.
وأريد أن أقول: إنه هو المنزلق الصعب الذي تعرض المحدثون لوضع حد له، فبعضهم وضع حداً لا يصلح إلا مع الحديث الحسن لذاته، وبعضهم وضع حداً لا يصلح إلا مع الحديث الحسن لغيره، بمعنى أنه كان ضعيفاً في الأصل، ولكن بشروط وتوافر عوامل أخرى خارجية ارتقى الحديث عند قوم ولم يرتق عند آخرين؛ ولذلك وقع الخلاف فيه.
لكن على أية حال: نحن نريد الآن في هذه العجالة أن نخلُص من أمرين: الحديث الصحيح لغيره، والحسن لذاته.
فالحديث الحسن لذاته عرفه الحافظ ابن حجر، وهو أعظم تعريف للحديث الحسن لذاته، ويشترط في كل حد أن يكون جامعاً مانعاً، فأي حد وأي تعريف لابد أن يكون جامعاً لأوصاف المحدود، مانعاً من دخول أوصاف غيره معه، فعندما أقول: الحديث الحسن؛ يلزمني أن أعرف الحسن تعريفاً دقيقاً، بحيث لا أُدخِل معه غيره، ولا أُخرِجه عن أصله الذي وضع له.
بمعنى آخر: عندما أعرف الحديث الحسن أضع له تعريفاً، هذا التعريف لا يسمح بدخول غير الحسن في هذا التعريف، كما أن هذا التعريف ينبغي أن يكون جامعاً للأوصاف التي يجب توافرها في الحسن؛ حتى لا أدع للآخرين مجالاً للنقض، ولا لطرح أسئلة أخرى موجهة لهذا الحديث.
والحافظ ابن حجر في النزهة قبل أن يعرف الحسن لذاته عرف الصحيح فقال: هو ما اتصل سنده بنقل العدل تام الضبط من غير شذوذ ولا علة.
ثم قال: (فإن خف الضبط فالحسن لذاته).
والحديث الصحيح: هو ما اتصل سنده بنقل العدل، والعدل هو الثقة، والتوثيق لا يصدر للراوي ولا يحكم له به إلا إذا كان تاماً في عدالته وديانته وورعه وتقواه، وتاماً في ضبطه، يعني: يضبط ضبطاً جيداً متيناً؛ حتى يشهد له أئمة النقد بأنه ضابط ولم يخالف أحداً ممن روى حديثه؛ لأنه لو خالف حتى علم منه ذلك فإنه يستحق أن يترك؛ لأنه يكون سيئ الحفظ جداً.
فالحافظ ابن حجر يقول: (فإن خف الضبط)، يعني: فإن اختل شرط من شروط هذا الحديث الصحيح في ناحية الضبط فالحسن لذاته، وليس معنى: (فإن خف الضبط) أنه صار يخرف، لا، بل المعنى أنه لا يكون في كمال الضبط، ولا في تمامه، ولكن ينزل درجة ومرتبة، ولذلك قال الحافظ: هو ما اتصل سنده بنقل العدل، ولم يقل: العدل الضابط، وإنما قال: العدل تام الضبط، يعني: الذي عنده ضبط كامل، ومتقن جيداً، فإن خف الضبط شيئاً يسيراً فهو ينزل من مرتبة الثقة إلى مرتبة الصدوق؛ لأن حديث الثقة حديث صحيح لذاته، وحديث الصدوق حديث حسن لذاته، ومعنى حسن لذاته: أنه اجتمعت أسباب الحسن فيه هو، ولم يكتسبها من عوامل خارجية، مثال ذلك: رجل قوي متين جداً، أقول: هذا إنسان قوي، أو هذا إنسان صحيح، أو مهيب، أو مخيف، والذي يراه يخاف منه، فنقول: إنه مخيف لذاته؛ لأنه قوي وصاحب عضلات وفتوة،