قال: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ -هل هؤلاء معلومون وهؤلاء معلومون لله عز وجل؟ - قال: نعم.
قال: ففيم العمل؟ أو ففيم يعمل العاملون؟)] يعني: إذا كان الله تعالى قسم عباده إلى قسمين وجعل قسماً في النار والآخر في الجنة، فلم نعمل إذاً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(اعملوا.
فكل ميسر لما خلق له)]، اعملوا فكل مهدي إلى ما خلقه الله تعالى لأجله، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال: [وعن أبي الأسود الدؤلي -وهو من سادات التابعين ومن أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يكدح الناس اليوم ويعملون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاتخذت عليهم به الحجة؟ قال: لا.
قلت: بل شيء قد قضي عليهم ومضى عليهم.
قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟].
عمران بن حصين يقول لـ أبي الأسود الدؤلي: العمل الذي يعمله العاملون الآن هل لأمر قد قضي ومضى وانتهى، أو لأمر سيأتي بعد ذلك قد أتاهم به نبيهم؟ قال: بل لأمر قد مضى وانتهى وكتب في اللوح المحفوظ.
قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ أي: الله تعالى أدخل ناساً النار، وأدخل ناساً الجنة قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة.
قال: فهل يا أبا الأسود! تعد ذلك ظلماً؟ قال: [ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، وقلت: إنه ليس شيء إلا وهو خلق الله وملك يده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون]، يعني: لا يقال: إن هذا الفعل من أفعال الله تعالى ظلم، وإن كان ظاهره الظلم، لكن هذا الظاهر فيما يتعلق بأفهام العباد، لا ما يتعلق بحقيقة الأمر في علم الله عز وجل.
قال: [لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: سددك الله، إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلك]، أي: ما قلت لك هذا من باب إثبات أن هذه شبهة عندي، لكني والله ما أردت إلا أن أتأكد من صحة عقلك وقوة إيمانك.
قال: [(أن رجلاً من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (أن رجلين من مزينة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه يا رسول الله! أشيء قضي عليهم ومضى عليهم أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاتخذت به عليهم الحجة؟ فقال: لا.
بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم)]، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بل هو شيء قد كتب في اللوح المحفوظ، وهم يعملون بمقتضى المكتوب في علم الله عز وجل.
قال: [(فلم نعمل إذاً؟)] السائلان يسألان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان هذا أمراً قد قضي علينا وانتهى الأمر به وأبرم في الكتاب، فلم نعمل إذاً؟ فقال: [(من كان خلقه الله لواحدة من إحدى المنزلتين فهو مهيئه لذلك)]، يعني: الله تعالى يهيئه ويهديه إما إلى سواء الصراط أو إلى سواء الجحيم؛ لأن الهداية على نوعين، وكذلك البشارة.
قال: [قال ابن بهية: فهو مهيئه لعملها؛ وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]]، أي: ألهمها طريق الفجور، وألهمها طريق التقوى كذلك.
إذاً: إذا ألهم الله نفساً فجورها بعد أن سواها وخلقها وقدر لها مقاديرها؛ أذن في خلق هذه النفس، وأذن له بوقوع الفجور منه باختياره هو بعد أن بين الله تبارك وتعالى له الحق من الباطل، وأنزل له الكتب وأرسل إليه الرسل، وميزه على بقية المخلوقات بالعقل، وكلفه بما لم يكلف به بقية المخلوقات، فقد قامت عليه حينئذ الحجة.
ومعنى أنه خلق للفجور: أنه قدر له أن يقع منه الفجور تقديراً كونياً قدرياً لا تقديراً شرعياً؛ لأن أعمال الطاعات إنما تقع موافقة لشرع الله عز وجل، وأعمال المعاصي والفجور إنما تقع بقدر الله تعالى، أي: تقع بقدرة الله وبإذن الله، أذن الله في وقوعها في الكون؛ لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد، فهذه المعاصي تقع بإرادة الله وبعلم الله وبخلق الله، لكن باكتساب العبد.
فمعنى أن الله تعالى أراد المعصية إرادة كونية قدرية، أي: أراد خلق المعصية وأذن في وجوبها إذناً قدرياً كونياً، وإن كان الله تعالى يكرهها ويحذر منها في الكتاب، ويحذر منها على ألسنة رسله، ويعاقب الفاعل على فعله وجرمه وفجوره، وحذر من ذلك في غير ما آية من الكتاب، وفي غير ما حديث من أحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام، ولكن لا يكون في كون الله إلا ما أراد وقدر، وإن كان للعبد مشيئة فمشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فما شاء العبد وما أراد العبد شيئاً لا يمكن أن يكون إلا إذا أراده الله تعالى، إما إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا وموافقة الشر