الحمد لله، نحمده ونستهديه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: في الدرس الماضي قدم إلي أخ كريم تعليقاً على ما قلته في الاحتجاج بحديث آدم وموسى، وأني احتججت بهذا الحديث أو جعلته دليلاً وحجة لمن احتج بالقدر على المعاصي بعد التوبة منها، ونقل إلي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في أنه لا يصح الاحتجاج على هذا النحو.
وأقول: إن هذه الأوراق المقدمة قد اطلعت عليها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وجزى الله تعالى خيراً الأخ المقدم لهذه النصيحة.
وعلى أية حال فإن الذي ترجح لشيخ الإسلام ابن تيمية لم يترجح عندي، وربما قصر فهمي وإدراكي عن فهم كلامه، وأما ابن القيم فقد اضطرب في هذه المسألة بين رأيين، فنصر المذهب الأول لـ ابن تيمية وضلل من قال بالرأي الثاني، ثم قال: وفي المسألة رأي آخر وجيه أو حسن، وذكر الرأي الثاني الذي كان قد ضلله منذ قليل، وضلل أصحابه وأهله.
وهذا الرأي الثاني هو الذي ترجح لدي منذ سنوات طويلة.
وقد سألت الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الرأي الثاني فقال: إنه وجه حسن.
وأصل القضية هي: هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية؟ والجواب إجماعاً: لا، فلا يحتج بالقدر على مجرد المعصية، ولا يحتج الزاني بأن الزنا مكتوب عليه، ولا السارق بأن السرقة مكتوبة عليه.
وهذه مسألة من مسائل الإجماع، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، ويجوز الاحتجاج بالقدر على البلاء.
وكما يقول أهل العلم: لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعايب وإنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، يعني: إذا نزلت بك بلية أو مصيبة فقل هذا من قدر الله عز وجل.
وهذا من مسائل الإجماع التي لا خلاف عليها، ويفهمها كل أحد.
وأساس القضية وأصل الخلاف هو: هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها؟ اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: يجوز، والذي قال يجوز احتج بحديث احتجاج آدم وموسى، وأن موسى عليه السلام لام أباه آدم على أنه أخرج ذريته من الجنة بسبب معصيته وأكله من الشجرة، وهذا بلا شك بلاء عظيم، وأصل هذا البلاء معصية وقعت من آدم، وتاب آدم منها، فلما تاب منها وفرغ من هذا الأمر احتج على موسى عليه السلام وقال: (أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً)، يعني: إن هذا الأمر مكتوب في اللوح المحفوظ، فمن العلماء من فهم كلام آدم على أنه احتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها؛ لأنه قد تاب منها، وهذا الذي يستقيم مع سياق الحديث ومع سياق القصة، وهو الذي أذهب إليه، ومن أراد أن يذهب إلى الرأي الأول وهو أن آدم لم يحتج بالقدر على المعصية وكذلك موسى، وإنما احتجا جميعاً على المصيبة، وهي أن آدم أخرج نفسه وذريته من الجنة، وهذه مصيبة وليست ذنباً، وسبب هذه المصيبة الذنب، فلو لم يأكل آدم من الشجرة ما خرج ولا خرجت ذريته، وهذا أمر مقدر ومكتوب على آدم قبل أن يخلقه الله عز وجل بأعوام وأعوام.
والذي أفهمه أنا من هذا الحديث أن هذا احتجاج بالقدر على المعصية ولكن بعد التوبة منها، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية قبل التوبة منها فهذا ضلال مبين.
وهذه من مسائل الإجماع كما قلت.