إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
كنا توقفنا عند الباب الرابع من المجلد الثالث من كتاب الإبانة لـ ابن بطة عليه رحمة الله، وهذا المجلد والذي يليه هو في مسألة القدر، وكيف أن القدرية خالفوا أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بمراتب القدر وأحكامه، وفي الحقيقة كنا وصلنا إلى الباب الرابع: وهو في علم ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل.
وتكلمنا من قبل أن الله تعالى هو خالق الخير والشر، وهو الذي خلق إبليس، ولا خالق غيره، ولا يكون في الكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر من خير وشر، فالله عز وجل خلق الخير وأمر به وأحبه وارتضاه لعباده، وخلق الشر فتنة لعباده ونهى العباد عنه، ولكنهم خالفوا ذلك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل وأنزل معهم الكتب، وركب فيك العقل الذي هو مناط التكليف، وبين لك الطريق، ووعدك الجنة على الطاعة، وتوعدك بالنار على المعصية، ففرغت حجتك.
وقلنا: إن مراتب القدر أربعاً، أول مرتبة: مرتبة العلم، أي: أن الله تعالى علم كل شيء كان ويكون وسيكون إلى قيام الساعة، وعلم ما قبل ذلك وما بعد ذلك، وعلم ذلك فكتبه في اللوح المحفوظ، فهو عنده مكتوب في اللوح المحفوظ والرق المنشور، لم يغادر هذا اللوح كبيرة ولا صغيرة.
والمرتبة الثانية: هي مرتبة المشيئة.
فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ما شاء الله كان شرعاً أو كوناً، فإذا كان شرعاً فهذا ما أحبه واصطفاه وأمر به، أما ما وقع في الكون مخالفاً للمشيئة الشرعية فقد أراده الله تعالى بمعنى: أنه أذن في وقوعه في الكون؛ لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد وشاء.
وأثبت الله تعالى لنفسه المشيئة، وأثبت لعبده المشيئة، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين أن للعبد إرادة وله مشيئة، لكنها مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، وتحت إرادة الله عز وجل، فلا يعمل العبد عملاً، ولا يفعل فعلاً، ولا يقول قولاً، ولا يحرك ساكناً إلا بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.
المرتبة الثالثة: كانت فيصلاً بين من يفهم القدر ومن لا يفهمه، بين من يوجه الأسئلة التي لا يجوز له ولا يحل له أن يوجهها، وبين إنسان آمن بكل ما أخفاه الله عز وجل عنه، وعلم أن القدر هو سر الله تعالى في خلقه كما قال علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم.
أما المرتبة الرابعة: وهي مرتبة الخلق، أنه ما من شيء إلا وخالقه الله عز وجل، فالله تعالى خلق أفعال العباد: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يدبر الكون، وهو مالك الكون سبحانه وتعالى.
هذا إجمال لما سبق من تفصيل في بيان مراتب القدر الأربعة، والتي ضل كثير من الناس فيها؛ لأنهم لم يقسموا القدر إلى هذه المراتب، بل نظروا إلى القدر بعين العلل، لابد أن يعلموا العلة من هذا، والعلة من ذاك، وبالتالي وقعوا فيما وقعوا فيه من إنكار وجحد، والقدرية من أوائل الفرق التي ظهرت في الإسلام، وأوائل ظهورها كانت في البصرة، والعراق على سبيل الإجمال هو مهد الفتن في الإسلام، ما من فتنة إلا ولها جذور عراقية أو مصرية.
ولذلك أتى يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، وقالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فوفقا إلى عبد الله بن عمر أبي عبد الرحمن رضي الله عنهما، فاكتنفاه، وسأله أحدهما: إن أناساً ظهروا قبلنا في البصرة يقولون: لا قدر.
وأن الأمر أنف، أي: أن الله لا يعلم ما سيكون إلا بعد أن يكون، وأن الأمر مستأنف لا يعلمه الله قبل وقوعه حاشى لله.
قال: إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون القرآن، وفي رواية: يتقفرون العلم، أي: يطلبون دقائقه ومسائله العويصة، قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني.
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: وهذا كلام ظاهر ينص على أن عبد الله بن عمر كان يكفرهم، وغير واحد قال: قد عقد الإجماع على أن منكر مرتبة العلم والكتابة كافر مرتد عن ملة الإسلام.
إن الخلاف فيما يتعلق بمرتبة الإرادة والخلق خلاف نكير، ولم يظهر في الأمة من ينكر هذا أو ذاك، حتى رأيت في زمننا هذا بعض الكتاب والصحفيين من ينكر القدر، وينسب الإرادة وا