قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6].
وهذا الخطاب موجه لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فهو يقول: يا محمد! هؤلاء الكفار ((سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ))، أي: عندهم، {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، والسبب {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7].
فإذاً: الختم على القلب والسمع، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7].
والشخص إذا كان أعمش فإنه لا يرى الشيء رؤية واضحة، فضلاً عن أن يكون أعمى فإنه لا يرى شيئاً أصلاً، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7].
والله عز وجل هو الذي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، ومع هذا أعد لهم يوم القيامة عذاباً أليماً؛ لأنهم اختاروا الكفر على الإيمان، فالآية في أولها تقول: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ))، يعني: عندهم ((أَأَنذَرْتَهُمْ)) يا محمد! ((أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))، وذلك بسبب تمكن الكفر من قلوبهم، واختيارهم للكفر على الإيمان، وعلامة ذلك: ((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)).
هذا في الدنيا، وفي الآخرة أعد لهم عذاباً أليماً.
ولو أن هذا وقع من العبد على العبد لقلنا أن فيه نوع ظلم، بل هو الظلم بعينه، ولكن لا نقول: إن هذا فعل من أفعال الله مبني على ظلم العباد؛ لأن الظلم صفة نقص، والله تبارك وتعالى منزه عن صفات النقص ومتصف بصفات الكمال، فلا يجوز توجيه السؤال ابتداء؛ لأن هذا من أفعال الله، وأفعال الله تبارك وتعالى كلها مبنية على الحكمة والعدل والفضل، فالله تبارك وتعالى يجازي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف بعد ذلك لمن يشاء، مع أن العقل يقول: الحسنة تقابل الحسنة، والسيئة تقابل السيئة، ولكن هذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.
وقال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155].
والباء للسببية، والضمير في عليها يعود على القلوب، ((بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ))، أي: بسبب كفرهم، {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155].
وقال عز وجل: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41].
والإرادة هنا إرادة كونية قدرية؛ لأنها متعلقة بالفتنة، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41].
وقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25]، أي: أغلفة وأغطية، {أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، أي: ثقلاً في آذانهم، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25].
وهذه إرادة كونية قدرية كذلك؛ لأنهم يسمعون، لكن ليس سماع المجيب، والسماع أنواع، فهناك من يسمع ولا يلقي بالاً لما يسمعه، وهناك من يسمع ويستجيب وينفذ فوراً، وأنت تقول في صلاتك: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله تبارك وتعالى حمد من حمده، فالثناء في قوله: سمع الله لمن حمده سماع إجابة، ولو أنك فتحت الراديو أو المذياع على أغنية وسمعتها بمحض إرادتك فإنك تأثم بذلك، ولو فتحها أحد بجوارك وليس في إمكانك أن تنهاه عن ذلك، أو نهيته فلم يستجب، وهو قريب منك أو جار لك، بحيث لا يمكنك أن تقول: أنا ما سمعت الأغاني أو الموسيقى؛ لأنك قد سمعتها بالفعل، فهذا سمع غير إرادي وقع على أذنك، والأول سمع إرادي أنت قد اقترفته.
فأنت في الحالين قد سمعت، فمرة سمعت بإرادتك وأنت آثم، ومرة سمعت بغير إرادتك ولا تأثم بذلك.
فهناك فرق بين سماع الإجابة وسماع الإعراض.
وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
وهذه إرادة شرعية دينية؛ لأن مبناها على المحبة والرضا، فالله تعالى يحب الإسلام والإيمان، فمنهم من سمع واستجاب، ومنهم من سمع وأعرض، فأما من سمع واستجاب فهذا قد شرح الله تعالى صدره للإسلام.
وهذا الشرح من إرادة الله تعالى الشرعية الدينية.
قال: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125].
والناس هم الذين اختاروا طريق الضلال، ولا عذر لهم في ذلك؛ لأن الله تعالى أراد ابتداء هداية الخلق جميعاً، ولذلك جعلهم عقلاء، ولم يكلف المجنون ولا الصبي الصغير، ثم أرسل إليهم الأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، وأقام عليهم الحجة، فمن أعرض عن دعوة الأنبياء والمرسل