إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا يمكن لأحد أن يفهم سر القدر إلا بمعرفة مراتب القدر، ومراتب القدر: العلم، والكتابة، والإرادة، والخلق.
فالمرتبة الأولى: العلم، وهو علم الله تعالى الأزلي السابق بما كان وبما سيكون.
المرتبة الثانية: الكتابة، وأن الله عز وجل كتب كل ما سيكون في اللوح المحفوظ.
ومرتبة العلم أدلتها من الكتاب والسنة كثيرة جداً، ومنها اسم الله تعالى العليم.
وأما الكتابة فمن الأدلة عليها قول الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39].
والمحو والإثبات يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة، وأما اللوح المحفوظ فلا يقبل المحو، كما قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))، أي: الذي لا يقبل بعد ذلك محواً ولا إثباتاً.
وجاء في مسلم: (إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
والمرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة، والإرادة إرادتان، شرعية دينية، ومبناها على المحبة والرضا، مثل قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43].
فمن صلى حقق محبة الله عز وجل ووافق إرادة الله تعالى الشرعية.
وإرادة كونية قدرية، وهي كل ما يقع في الكون من خير وشر، فإذا كان خيراً فقد وافق مراد الله عز وجل كوناً وشرعاً، وإذا كان شراً فقد وافق مراد الله تعالى القدري الكوني، وخالف الإرادة الشرعية، فالزنا والسرقة والقتل وفعل المعاصي كل ذلك يقع بإرادة الله عز وجل ومشيئته تعالى؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله تعالى وقدر، فلا يستطيع أحد أن يعمل شيئاً رغماًَ عن الله عز وجل، فكل ما يكون في الكون من خير وشر هو بإرادة الله تعالى ومشيئته، ولا يعني ذلك أن الله تعالى يحب هذا، بل إنه تعالى يحب الخير ويبغض الشر، كما قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7].
ومع هذا أذن الله تعالى في وجود الكفر والمعاصي، الكبائر منها والصغائر، ونهى عنها، فمن امتثل النهي فقد وافق الإرادة الشرعية، ومن خالف النهي ووقع في المحذور فقد خالف الإرادة الشرعية ووقع في الإرادة الكونية القدرية.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]؟ فلا خالق إلا الله، فهو تعالى الذي خلق إبليس وهو رأس الشر، ولا يصح أن نقول: لم خلق الله إبليس؟ ومرتبة الخلق تعني: أن أفعال العباد من خلق الله عز وجل، وكتب الأفعال بأيدي الملائكة، فالسارق الذي ينطلق من مكانه إلى موضع السرقة ثم يكسر الحرز ويأخذ المال المسروق لو أن الله تعالى أراد ألا يسرق لما مكنه من ذلك، فنقول: الله تعالى مكن هذا السارق من إيقاع السرقة، ولكن الذي باشر السرقة هو العبد.
فأفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وقوع السرقة من باب الخلق والإيجاد، وأما من باب الكسب والمباشرة فالذي اكتسب السرقة هو العبد.
والله عز وجل هو خالق الخير والشر، والهدى والضلال، وبعض الناس استشكل ذلك، وسأل: كيف خلق الله تعالى الشر؟ ونقول: الشر ليس شراً محضاً، فما من شر إلا ومعه خير، إما للعبد وإما لغير العبد، وهذا الخير الذي مع الشر إما أن ينتفع به الشرير أو ينتفع به المجتمع بأسره، فمثلاً الزنا والسرقة والقتل شرور، بل كبائر تتلو بعضها بعضاً، ولكن لو أن سارقاً سرق فأقيم عليه الحد بقطع اليد ورأى ذلك طائفة من الناس، فكل واحد ممن رأى أو سمع لابد أنه سيفكر مليون مرة إذا سولت له نفسه السرقة، وبالتالي يكف عن السرقة، ولذلك لما رفعت الحدود تجرأ القاصي والداني على السرقة وعلى القتل والزنا؛ لأنه يعلم أنه لن يقام عليه حد.
وفي ظل هذه المدنية والتقنية العظيمة جداً نقول: إن الحدود خيرها ونفعها متعد إلى أقصى حد، فلو أقيم على الهواء حد على الزاني أو السارق لفكر العالم بأسره فيما لو أراد أن يسرق أو يزني أنه سيفعل به مثلما فعل بفلان من الناس في البلد الفلاني، فالأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والخير كله في يديك والشر ليس إليك)، أي: الشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل، ولكن الشر الذي يبدو للناس أنه شر وفيه وجه من وجوه الخير فهذا مما أذن الله تعالى في وقوعه ووجوبه وخلقه، والذي باشر ذلك وكسبه هو العبد.