الأصل الثاني الذي هو محل اتفاق: أن الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان كافراً، والباطل يرد على كل من جاء به وإن كان شيخ الإسلام، فهذا الأصل لا علاقة له بالأشخاص؛ لأن الحب يعمي ويصم، وكما يقال: (حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط) فهذا يا إخواني! ليس فيه أدنى موضوعية ولا تجرد لله عز وجل، فأنا حبي لله عز وجل وحبي للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة ينبغي أن يفوق كل محبوب؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)، (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، إذاً: تحب الله وتحب رسوله، وإذا كنت صادقاً في هذه المحبة فاعلم أن حبهما اتباع واقتداء وعمل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [آل عمران:31].
الشاهد من هذا: أنني أحب فلاناً ولا أحب فلاناً آخر، فهل عدم حبي لفلان يحملني على رد قوله وإن كان حقاً، فمن كان هذا شأنه فإن هذا باب من أبواب الزندقة والإلحاد، وكما يقولون: الطالب الذي له شيخ واحد كالرجل الذي له امرأة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها.
يقول ابن المعتز: لا تعلم الحق إلا إذا سمعته من غير شيخك، فلو دخل علينا الآن رجل وأخبرنا بخبر وكان ثقة عندنا صدقناه، فإن دخل الثاني وأخبرنا بنفس الخبر ازددنا به تصديقاً، وكذلك الثالث والرابع؛ حتى نستطيع أن نقسم على صحة هذا الخبر، لماذا؟ لأن هذا الخبر قد بلغنا بالتواتر والعلم اليقيني الذي يضطر الإنسان إلى تصديقه بغير نظر ولا بحث، بخلاف خبر الآحاد.
إذاً: في هذه الحالة يا إخواني! نتفق على ترك التعصب؛ لأنه لا يصلح أن يكون التعصب خلقاً لمسلم فضلاً عن أن يكون خلقاً لطالب العلم، والحق يؤخذ من كل من أتى به لأنه الحق، وأنا محاسب عليه سلباً وإيجاباً -إيجاباً أثاب فيه، وسلباً أعاقب عليه لتركه- تصور لو أن شنوده أو شارون وجد مسلماً يزني أو يسرق أو يقتل وقال: يا فلان! اتق الله أليس الله قد حرم عليك هذا؟ فقال المسلم: من أجل أنك شارون لن آخذ بنصحك، وسأستمر في معصيتي.
هل يقول بهذا عاقل يا إخواني؟ لا؛ لأن الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان شارون، طبعاً هو لا يأتي بالحق مطلقاً، لكن على فرض أنه أخطأ مرة وجاء بالحق.
فهل يقبل منه؟ نعم، لأن هذه قواعد مقررة لا خلاف عليها.
إذاً: التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام، والتعصب للكتاب والسنة، والتعصب لسلف الأمة، أما ما دون ذلك فعار أن تتعصب له أياً كان هذا الشخص؛ لأنه يخطئ ويصيب.
كما أن المسلم يتعصب للإجماع؛ لأن الأمة معصومة من الوقوع في الضلال، وإذا قلت: إن هذه المسألة من مسائل الإجماع، فمعناه إجماع علماء الأمة المعصوم في الجملة، فالتعصب لا يكون إلا لأمثال هؤلاء.
فنفرق بين فعل الكفر أو البدعة وبين من وقع فيها، فلا يلزم من إثبات كفر الفعل إثبات كفر الفاعل، ولا يلزم من إثبات بدعية الفعل بدعية الفاعل، فربما قام بينه وبين الكفر والبدعة مانع من موانع التكفير أو التفسيق أو التبديع.
وهذا أصل من أصول أهل السنة، أنهم يفرقون دائماً بين إطلاق القول بالكفر وكفر المعين، فالإمام أحمد بن حنبل كان دائماً يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، والذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق في زمان أحمد بن حنبل هم المعتزلة ومن خاف من بطشهم من علماء السنة، كـ يحيى وغيره، ومع هذا لم يكفر أحمد بن حنبل الحكام في زمانه بأعيانهم، ولم يكفر العلماء ومنهم يحيى بن معين كما سبق؛ وذلك لأن هناك فارقاً عظيماً بين كفر العمل وكفر العامل أو كفر المعين، وقد سئل أحمد بن حنبل: ألست تقول يا أحمد إن من قال القرآن مخلوق فقد كفر؟ قال: بلى.
قيل له: فلم لم تكفر فلاناً وفلاناً من حكام المعتزلة وأمراء المؤمنين؟ قال: أليسوا قالوا ذلك ابتغاء وجه الله وإقامة دينه؟ يعني: هم ما فعلوا ذلك إلا جهلاً منهم، وهم يتصورون أنهم يقيمون بذلك الدين، فالمعتزلة في ذلك الزمان كانوا يحاربون أحمد بن حنبل من باب أن أحمد بن حنبل يقول: القرآن غير مخلوق؛ ظناً منهم أنه يخرب عقيدة المسلمين، فهم كانوا يتهمون أحمد بن حنبل بأنه خرب عقيدة المسلمين، وما قاموا عليه قومة رجل واحد إلا من باب حماية الدين وحراسته، فما فعلوه مع الإمام أحمد بن حنبل كان مصدره ومنشؤه الجهل، وما كان حرصهم على ذلك إلا لتثبيت مسائل الاعتقاد لدى المسلمين، فعملوا كل ذلك لأنهم يحبون الله ورسوله والقرآن، فعندما يأتي عالم كـ أحمد بن حنبل ويقول: القرآن ليس مخلوقاً فإنه سيقلب الموازين ر