إثبات الفارق بين قولنا: العمل الفلاني كفر، وقولنا: العامل كافر، هناك فرق بين القولين، وهذا أدى بكثير من الناس إلى إطلاق أحكام التكفير، فلو قلنا: إن سب الدين كفر، فلا شك أن هذا من مسائل الإجماع، لكن بشرط أن تتوجه إرادة الساب إلى قصد سب الدين، أما إذا كان هذا الساب عاملاً بأحكام الشرع ظاهراً وباطناً في الليل والنهار، وسبق لسانه في غير قصد منه إلى سب الدين فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد هذا السباب، ولم تتوجه إليه إرادته.
ولو أن شخصاً قصد بالدين الخلق كخلق المسبوب، إذ لم تتوجه إرادته قط إلى الدين الذي نزل من السماء، وإنما قصد بالدين خلق هذا المسبوب، فإن هذا لا يكفر حتى وإن كان سب الدين في ذاته كفراً، فنقول: القول الذي قلته كفر، لكن هل تكفر به؟ هذا موطن النزاع، القول قول كفر بلا نزاع، والنزاع: هل يكفر القائل أو العامل أو لا؟ ولذلك ليس كل من وقع في الكفر كافراً، كما أنه ليس من وقع أو تلبس ببدعة مبتدعاً.
ولذلك جاء عن بعض السلف أنهم كانوا متلبسين ببعض البدع ظناً منهم أنها السنن، فلما علموا أنها بدع انتهوا عنها، وذموا ما كانوا عليه سلفاً، وعملوا بالسنن عملاً مستأنفاً، وتحسروا وندموا أشد الندم على ما كان منهم، لكنهم يعلمون يقيناً أنهم غير آثمين بذلك؛ لأنهم ظنوا أن ما كانوا عليه قربة إلى الله عز وجل.
إذاً: عندما أرى شخصاً على بدعة لا أبادر إلى تبديعه أو تفسيقه أو الحكم عليه حتى تقام عليه الحجة الرسالية، فربما وقع فيه بجهل أو بخطأ أو بتأويل أو بشبهة أو إكراه، وهذه هي الموانع، فلا أبادر بإلحاق الكفر عليه إلا بعد قيام الحجة عليه وفهمه لهذه الحجج، إذاً: هذا الأصل الذي نذهب إليه ونقرره دائماً: أن الفارق قائم بين كفر العمل وكفر العامل، والعمل البدعي وبدعية العامل، فليس كل من ارتكب الكفر كافراً، كما أنه ليس كل من تلبس ببدعة مبتدعاً.
الأصل الذي يلحق بهذا، لو أن قائلاً قال بمقولة قال بها بعض أهل الفرق الضالة متأولاً أو مجتهداً يظن أن هذا هو الحق، ولو علم أن الحق في خلافه لانتهى عنه، يا إخواني كم من عالم من علماء السنة عميت عليه مسائل اعتقادية على طور التاريخ وعرضه، ولك أن تنظر في كتب التراجم كسير أعلام النبلاء، أو تهذيب الكمال، أو غير ذلك من الكتب التي ترجمت لعلماء السلف والخلف معاً، ستجد أن الرجل كانت إليه الرحلة من أقطار الأرض، ومع هذا له زلة، وهذه الزلة في العلم أو العمل أو العبادة أو العقيدة، وأياً كانت لكن السؤال الآن: هل يخرج هذا الرجل بهذه الزلة عن حظيرة أهل السنة والجماعة؟
صلى الله عليه وسلم لا، لماذا؟ لأنه لابد من صناعة الموازنة في حق هذا الرجل بين إصابته وخطئه، فمن غلبت إصابته على خطئه كان الأصل فيه الاستقامة، ويُرَدُّ شره لخيره.
فلو ضربنا مثلاً لذاك لوجدنا أن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله ذاك العلم الذي يشار إليه بالبنان، ولا يفهم أحد كلام النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري إلا من طريق الحافظ ابن حجر، ولا يقول بغير ذلك إلا متكبر بطر الحق وغمط الناس، هذا الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله إمام من أئمة الهدى، وداعية من دعاة السنة أخطأ في مسائل من أقوال الأشاعرة؛ فقال بقول الأشاعرة، فهل يعد بهذا أشعرياً؟
صلى الله عليه وسلم لا؛ قولاً واحداً؛ لأننا إذا نظرنا إلى الرجل وجدنا أن الأصل فيه الاستقامة على منهج السلف، والدعوة إلى منهج السلف وعقيدة الصحابة رضي الله عنهم علماً وعملاً، وهذا موجود في كل كتابات الحافظ ابن حجر فنقول: عميت عليه هذه المسائل بعينها، والقول فيها على غير عقيدة السلف لا يخرج الحافظ من دائرة أهل السنة؛ لأن الأصل فيه الاستقامة.
كما أنه لا يصلح أبداً أن نقول في رجل معروف بالبدعة، والأصل فيه الانحراف والزيغ عن عقيدة أهل السنة: إن هذا رجل من أهل السنة، فلو أن محيي الدين بن عربي -إمام من أئمة الضلال- قال قولاً وافق فيه أهل السنة، فهل هذا القول يخرجه عن حد البدعة؟ لا يخرجه؛ لأن الأصل فيه الانحراف عن عقيدة أهل السنة، ولو أن ابن تيمية عليه رحمة الله الآن وقفنا له على قول يخالف فيه أهل السنة، ويوافق فيه قول بعض أهل البدع، فهل يكون مبتدعاً بهذا القول؟ لا يكون مبتدعاً بهذا القول؛ لأن النظر إلى أصله هو الاستقامة، فلابد من صناعة موازنة في حق كل إنسان على حدة، إذا كان خطؤه عظيماً كان الأصل فيه الانحراف، وإن أصاب فإن إصابته لا تخرجه عن طريق الانحراف، والعكس بالعكس، إذاً: لا يلزم من الوقوع في الكفر أن يكون الشخص كافراً، كما لا يلزم من الوقوع في البدعة أن يكون صاحباً مبتدعاً.
إن الحافظ ابن حجر شن حملة شعواء في المجلد الأول والثالث عشر على الأشاعرة، وبين فساد معتقدهم، وانحرافهم عن الجادة والصواب، ثم وقع فيما وقعوا فيه؛ لكن بالنظر إلى ما أصاب فيه لا يساوي شيئاً، فيبقى أن الأصل فيه الاستقامة، وأن هذا الانحراف مغفور له بإذن