قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب معرفة الإسلام والإيمان، وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم].
وأنتم تعلمون هذا الحديث المشهور، وهو في الصحيحين من حديث [عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: جلوس عند النبي في مجلسه أو في مسجده، وهذا كان بالمدينة.
[(إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم)]، هذا الرجل هو جبريل عليه السلام، نزل في هيئة كانت مثار عجب من كل من رآه، لأن المدينة بعيدة المنأى عن البلدان المجاورة، ومن قصد المدينة من أرض الحجاز أو غيرها لابد أن يظهر عليه أثر السفر واتساخ ملابسه وشعث شعره وغير ذلك، ولكن هذا الذي أتى ليسأل عن أمور دينه، إنما هو رجل (شديد بياض الثياب) على غير عادة المسافر، (شديد سواد الشعر) على غير عادة المسافر الذي اغبر وجهه وتترب شعره وغير ذلك من آثار السفر، كما أنه ليس من أهل المدينة بدليل أن أحداً لم يعرفه.
قال: [(حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركبته تمس ركبته)]، يعني: ركبة جبريل عليه السلام لامست ركبة النبي عليه الصلاة والسلام لما جلس أمامه عليه الصلاة والسلام، وجبريل تصور في صورة رجل ولم يظهر في صورته الحقيقية التي خلقه الله عز وجل عليها، لأن أحداً من البشر دون الرسل لا يطيق ولا يقدر أن يرى ملكاً في صورته التي خلقه الله عز وجل عليها.
فجاء وجلس بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام [(حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه)]، يعني: جعلهما بمحاذاة ركبتيه.
[(ووضع كفيه)]، أي: وضع جبريل كفيه [(على فخذيه)]، والضمير يعود على جبريل، لأنه جلس جلسة المتعلم السائل، ومن سوء الأدب أن يضع السائل يده على كتف المسئول أو على ظهر المسئول أو على بطنه أو على فخذه، أو أن يسلم عليه من خلف ظهره، إنما الأدب ما فعله جبريل عليه السلام، فهو يعلم الصحابة إذا سألوا النبي عليه الصلاة والسلام كيف يسألون وكيف يقولون مرادهم من السؤال، وكيف يجلسون بين يدي أستاذهم وشيخهم صلوات الله وسلامه عليه.
[(ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، فقال: صدقت)].
من شأن السائل أنه جاهل بما يسأل، وهذا الذي دعا الصحابة أن يتعجبوا من تصديق السائل للمسئول بأنه صادق فيما أخبر.
عرف الإسلام بكلمة الإخلاص التي يحصن بها المرء دمه ونفسه وماله وعرضه، ثم الأعمال الظاهرة أعمال الجوارح، والأعمال المالية كالزكاة، والأعمال التي تجمع بين المال والبدن كالحج، فالصلاة من أعمال الجوارح، والزكاة متعلقة بالمال، والحج متعلق بالمال والبدن، فعرف الإسلام بالأعمال الظاهرة.
قال: (أن تشهد) والشهادة لا تكون إلا بلسان، إلا لمن عجز عن النطق فإنه يعدل عن النطق إلى الإشارة.
[(قال: صدقت.
فتعجبنا من سؤاله وتصديقه، ثم قال: فما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وحده، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبالقدر خيره وشره، قال: صدقت، فتعجبنا من سؤاله وتصديقه.
ثم قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعمل لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، فتعجبنا من سؤاله وتصديقه.
قال: فأخبرني عن الساعة؟)]، أي: عن ميعاد ووقت قيامها [(قال النبي عليه الصلاة والسلام: ما المسئول بأعلم من السائل؟)]، يعني: أنا وأنت فيها سواء لا نعلمها؛ لأنها من علم الله عز وجل الخاص به الذي لم يطلع عليه أحد، لا ملك مقرب ولا رسول مرسل [(قال: فأخبرني عن أماراتها)] أي: علاماتها وأشراطها [(قال: أن تلد المرأة ربتها)] أي: سيدتها.
[وفي رواية: (أن تلد الأمة سيدها وربها)]، وهذه أمارة، وهي دلالة على كثرة السراري والإماء في آخر الزمان، وأن المرأة إذا كانت تحت حر وسيد فولدت له ولداً كان الولد سيد أمه تبعاً لأبيه؛ لأن ابن الأمة يكسب الحرية من حرية أبيه، أو ربما تكثر الإماء ويكثر بيعهن وشراؤهن في الأسواق حتى يشتري الولد أمه، فتكون أمة عنده، وهذا أيضاً من علامات الساعة.
قال [: (وأن ترى العراة الحفاة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان)]، وهذه علامة ثانية، أن ترى البدو أي: الأعراب الأجلاف الذين قل مالهم ونفد زادهم، تفتح عليهم الدنيا فيبنون البنيان ويتطاولون فيه، وإذا كان ذلك فهو علامة على قرب الساعة [(قال: صدقت.
ثم انطلق، فلما كان ثالثة -أي: في الليلة الثالثة-، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! هل تدري من الرجل؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر د