الباب الثاني: وهو ذكر الأخبار والآثار التي دعت ابن بطة رحمه الله إلى جمع هذا الكتاب.
قال: [أستوفق الله بصواب القول وصالح العمل]، أي: أطلب منه التوفيق والسداد، [وأسأله العصمة من الزلل، وأن يجعل ما يوفقنا له من ذلك واصلاً بنا إليه، ومزلفنا لديه، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا وبركة علينا وعلى من عرفنا ومن قصدنا لحمل ذلك عنا، فإنا لله وبه وإليه راجعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل].
فهذا بلا شك أن الدافع لهذا الإمام إلى تصنيف هذا الكتاب: ظهور البدع، فقد أورد في هذا الباب أحاديث ظاهرها وجوب أن يتكلم العالم بما عنده من علم إذا ظهرت الفتن والبدع، لكن هذه الآثار غير صحيحة كما سيأتي.
قال حذيفة لـ أبي مسعود البدري، وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، وليس بدرياً، فهو لم يحضر غزوة بدر، وإنما نسب بدرياً لأنه كان يسكن في مكان يسمى: بدر.
[قال حذيفة لـ أبي مسعود: إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله واحد].
أي: أن الضلال الذي ليس بعده ضلال أن تقول عن الحق إنه باطل، وأن تقول عن الباطل إنه حق، وبعد أن كنت على الحق المبين تتنكب له وتقول: بل هو المنكر الذي ليس بعده منكر، فكثير من الناس يكون على أمر الاستقامة ثم يزيغ وينحرف، لأنه في أصله وأصل هدايته كان صاحب هوى، ثم اعلم أن الناس ينقمون عليه ضلاله وانحرافه عن الطريق الذي سار فيه أولاً، فهو يقول ويسابق: إن الذي كنت عليه لضلال مبين، وما أنا عليه الآن فإنه الحق المبين.
فهذا تلون في دين الله عز وجل، والله عز وجل لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه ولا من نياتهم، ودين الله تبارك وتعالى واحد لا تلون فيه، والحق فيه واحد، ولذلك نحن نرى أناساً كثيرين بعد أن كانوا ينهجون نهج سلف الأمة رضي الله عنهم أجمعين، تنكبوا وصاروا إلى مذاهب وفرق شتى، زاعمين بأن ما هم عليه الآن هو خير مما كانوا عليه آنفاً.
وإني لأعجب كل العجب من إنسان بعد أن يتعرف على البخاري ومسلم، ومن قبلهما: الشافعي ومالك وابن حنبل، وغيرهم من أهل العلم وسلف الأمة وأصحاب السنن والمصنفات والأجزاء، ثم بعد ذلك كله يتنكب الطريق الحق جرحاً وتعديلاً، ويسلك مسلكاً خلفياً شطحاً، ثم يزعم أن ما هو عليه الآن خير مما كان عليه! فكيف يتصور أن صاحب فكر حديث هو خير وأولى بالاتباع من هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم آنفاً؟! إما أنه كان سلفياً بجهل ولا يدري ما معنى السلفية أو ما معنى نهج الخلف وسوء الخلف، وإما أنه تظاهر باتباع السلف وفي حقيقة الأمر قلبه قد امتلأ هوى، فإن مضى وأتيحت له الفرصة ترك وتخلى عن مذهب السلف وانتهج نهج الخلف.
قوله: (إن الضلالة حق الضلالة: أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله تعالى واحد).
ولذلك فإن انحراف هؤلاء الذين ينحرفون عن الصراط المستقيم أمر حتمي لابد منه؛ حتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث، وحتى نعلم الصادق من المنحرف والمتلون، ومع ذلك فهو أمر لا يرضيني شخصياً، فإذا كان الإمام على الاستقامة ثم انحرف فهذا له دلالة عندي قد استخلصتها من عند السلف ومن خلال السلف، وهي: أنه لم يكن على المنهج أصيلاً، وإنما كان دخيلاً جاهلاً، أو صاحب هوى كما قلت، وتركه لهذا المذهب الناصع البياض السليم الصحيح، واختياره لمذهب الخلف ظاهرة سطحية، حتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث.
[وقال عدي بن حاتم: إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون، وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف].
أي: لا تزال الأمة بخير إذا كان عالمها يتكلم وهو مطمئن لا يخاف السلطان وبطشه، أما إذا خاف العالم أن يتكلم من السلطان وظلمه وقهره، فإن الأمة لاشك قادمة إلى الهاوية.
[وقال الحكم بن عمير -وإن كان الحديث ضعيفاً جداً- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأمر المفظع، والحمل المضلع، والشر الذي لا ينقطع: إظهار البدع)]، وهذا الحديث لا نعول عليه لنكارته.
[قال ابن بطة رحمه الله: فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، ومن الرجوع عن الحق والعلم إلى الجهالة والعمى].