[وعن إياس]، وهو ابن معاوية بن قرة المزني القاضي المشهور، وهو من سادات التابعين، يروي [عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول دائماً في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن].
وهذا نهج المذكرين والوعاظ لو يعلمون صدق هذا الكلام وروعته، وهو كلام ابن مسعود سادس ستة في الإسلام، فهو من المسلمين الأوائل.
والمعروف أن في القرآن عشرات القصص والأمثال، وكذلك السنة قد امتلأت بالقصص والأمثال، والقصص تجد طريقها لقلوب الناس، خاصة قلوب العامة، بل تجد طريقها في قلوب العامة والخاصة، والقصص مسلية، لكنها ذكرت في القرآن والسنة للعبرة والعظة وتقريب المقال وغير ذلك، فيا ليت الوعاظ يلتزمون قصص القرآن الكريم وقصص سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.
والناظر في قصص القرآن وقصص السنة يجد أنها قد تصل إلى أكثر من (300) قصة، فلو أن كل واعظ انشغل بقصة من القصص فعلمها للناس، واستخرج منها العظات والفوائد والنكات، وأنزلها على واقع المسلمين اليوم، وطاف بها البلدان؛ لكان في هذه القصص الخير الكثير، لا كما يطوف بالقصص الصوفية والأولياء ويطوفون بالكلام الذي قد ورد في كتب الموضوعات والخرافيات وغيرها، وللأسف الشديد أن وعاظنا يرددون هذا الكلام على مسامع العامة؛ حتى صرنا أشبه بسلفية صوفية كما هو مصطلح أحد الزعماء الكبار.
يقول: دعوتنا سلفية صوفية.
كيف تكون سلفية صوفية؟! إن النار والجنة لا يمكن اجتماعهما قط؛ لأنه إما أن تؤثر السلفية في الصوفية فتستقيم، وإما أن تؤثر الصوفية في السلفية فتنحرف، أما اجتماعهما فمحال؛ فكيف تكون الدعوة موصوفة بأنها سلفية تارة وصوفية تارة أخرى؟! إلا أن يكون المراد بالصوفية الزهد، ولذلك حملناها على أصل معناها الذي وضعت له في مصطلح الصوفية.
فقوله: [إن أصدق الحديث كلام الله وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن، وأحسن السنن سنة محمد عليه الصلاة والسلام، وأصدق الحديث ذكر الله، وخير الأمور عزائمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل موت الشهداء]، يعني: أحسن القتل هو أن تموت شهيداً في ساحة القتال، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله.
قال: [وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى]، يعني: أسوأ الضلالة الضلالة بعد الهدى، فالإنسان الذي نشأ في ضلالة هو أقل قبحاً ممن عرف الهدى ثم انحرف عنه، وفي الغالب أن من خالط الإيمان بشاشة قلبه لا يترك الإيمان رغبة عنه.
قال: [وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع].
يعني: أنفع العلم وأحسن العلم ما ينفعك في دنياك وآخرتك.
قال: [وخير الهدى ما اتبع]، أي: خير الهدى اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، [وشر العمى عمى القلب].
كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فشر العمى عمى القلب، ويتبعه عمى العقل، أما عمى البصر فربما يمدح المرء لأنه أعمى البصر، ولو لم يكن تمني البلاء مذموماً في الشرع لتمنى المخلصون الذين يتأذون بالمعاصي العمى؛ لأن المرء الآن لا يكاد ينظر في شرق ولا غرب ولا فوق ولا تحت إلا وتقع عيناه على ما يغضب الله عز وجل، فهذا أمر يحمل على طلب العمى في هذا الزمان، لولا أنا قد نهينا عن تمني البلاء، والعمى بلاء، فالمرء ربما يغبط على بلاء قد نزل به وإن كان عمى في بصره.
ثبت في الأثر أن صحابياً أصيب بالعمى، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب منه أن يدعو له بذهاب البلاء عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك.
قال: يا رسول الله! بل أصبر)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أصيب في حبيبتيه فصبر فليس له جزاء إلا الجنة)، والحبيبتان: هما العينان، أي: من أصابه العمى في عينيه فصبر على هذا واحتسب الأجر عند الله عز وجل فله الجنة.
قال: (وشر العمى عمى القلب).
فعمى القلب وعمى العقل التابع لعمى القلب من أعظم الأمراض الفتاكة بالشخص التي تودي به إلى جهنم والعياذ بالله، لكن إذا كان أعمى البصر، وقلبه قد عمر بالإيمان والتوحيد فهذا شيء عظيم جداً، أما أن يعمى القلب عن معرفة الحق فلا يكاد يميز بين الحق والباطل، بل ربما زعم أن الحق باطل وأن الباطل حق، بل ذهب يدعو إلى الباطل وينحرف عن الحق؛ فهذا منتهى العمى ومنتهى الضلالة.
وأنتم تعلمون أن ابن مسعود في مسجد الكوفة الكبير كان يذكر الناس عشية كل خميس، ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم: (أن أصحاب ابن مسعود قالوا له: يا أبا عبد الرحمن! إنا نحب كلامك فهلا ذكرتنا في كل يوم؟ فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا) ي