الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فقد تكلمنا في الدرس الماضي عن إثبات أن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وبينا ذلك من الكتاب والسنة؛ إذ إنه في الأحاديث القدسية أن الله يتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء سبحانه وتعالى، فحينئذ القرآن الذي تكلم الله عز وجل ويتكلم به ولا تنفد كلماته ليس مخلوقاً؛ لأن الكلام صفة من صفات الله عز وجل، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.
ولو قلنا: إن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه لكان لزاماً أن نقول: إنه كان ليس قادراً على الكلام أولاً، فخلق في نفسه القدرة على الكلام فتكلم، وهذا القرآن إنما يحمل الأسماء والصفات، إذاً: كل الأسماء والصفات مخلوقة، فما يقوله الإنسان في صفة يلزمه أن يجري هذا الكلام في بقية الصفات؛ لأن الكلام في صفة هو كالكلام في جميع الصفات، فإذا كان الكلام مخلوقاً فجميع الأسماء والصفات مخلوقة، والذي يقول هذا مع إثبات كفره وإلحاده في أسماء الله تعالى وصفاته نقول له: إنه يلزمه أن يقول: إن الله تعالى ذات بغير صفات، وقلنا: إنه لا يتصور مطلقاً أن تكون ذات بغير صفات.
إذاً: إذا قال ذلك فإننا نقول له: كيف نتصور ذاتاً ابتداء بغير صفات؟ لابد أنه سيعجز عن الرد، ثم نقول له: لقد جعلت الله عدماً، والمعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً حتى يصير ذاتاً، وغير ذلك من هذه الفلسفات التي ينبغي أن يتنزه عنها المسلم.
كما قلنا في الدروس الماضية: إن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، والسلف رضي الله عنهم -أي: في زمن الصحابة وزمن التابعين- ما اضطروا إلى هذه الزيادة -غير مخلوق- لكن لما تكلم الجهمية بهذا الكلام الإلحادي الكفري اضطر السلف اضطراراً أن يقولوا: غير مخلوق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، ولم يقل لها: بذاته أم لا، فلما جاء الخلف وقالوا: الله تعالى في كل مكان، اضطر السلف أن يقولوا: الله تعالى في السماء بذاته، فهو استوى على العرش بذاته، وهو مع خلقه معية سمع وإحاطة ورعاية، وغير ذلك من بقية معاني صفاته سبحانه وتعالى.
إذاً: السلف ما قالوا: الله تعالى على العرش بذاته -وهم يعلمون أنه على العرش بذاته- ولم تكن هناك حاجة إلى أن يذكروا مصطلح: بذاته، حتى أتى من نفى أن الله تعالى استوى على العرش بذاته، فاضطر السلف أن يزيدوا في الرد على المبتدعة قول: بذاته، فقالوا: الله تعالى استوى على العرش بذاته، وكذلك السلف كانوا يقولون: القرآن كلام الله، وما كانوا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق؛ لأن الأمر مستقر عندهم أن القرآن صفة، وأن الكلام صفة من صفات الله، وهي غير مخلوقة، ولم ينازع في ذلك أحد من السلف، فما كان هناك حاجة إلى أن يقولوا: مخلوقة أو غير مخلوقة، فلما أتى من قال: القرآن كلام الله مخلوق، اضطر السلف أن يقولوا: بل القرآن كلام الله غير مخلوق، فاضطروا اضطراراً إلى ذلك، فمن الناس من قالوا: القرآن كلام الله مخلوق، ومنهم من قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ومنهم من توقف، فلم يتكلم لا في مسألة القرآن ولا في مسألة اللفظ، وقالوا: لا نقول: مخلوق ولا غير مخلوق، وإنما نقول: القرآن كلام الله، وربما يتوهم السامع بهذا أن هؤلاء الواقفة أخذوا بالأصل الأصيل الذي ورد في كلام سلف الأمة من الصحابة؛ أنهم ما كانوا يقولون: لا مخلوق ولا غير مخلوق؛ لأنهم قالوا: القرآن كلام الله، وهذا كلام لا يختلف عليه أحد من أهل السنة، لكن هيهات أن يكون الأمر كذلك، إذ إنهم شر ممن صرحوا بأنه مخلوق؛ لأن بقية العلامات والأمارات لهؤلاء الواقفة تنبئ عن أنهم جهمية؛ لأنهم تبنوا أصول الجهمية فيما يتعلق بنفي رؤية الله عز وجل ونفي عذاب القبر وغير ذلك، أي: قالوا بما قالت به الجهمية، فلا يمكن حمل توقفهم في كلام الله عز وجل مخلوقاً أو غير مخلوق على بقية منهج الجهمية، ولذلك عقد الإمام ابن بطة الباب السابق والذي قبله لإثبات عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله وأنه غير مخلوق، وساق الأدلة من القرآن في الباب الأول، وساق في الباب الثاني الأدلة من السنة النبوية وكلام الصحابة رضي الله عنهم على أن القرآن كلام غير مخلوق، لا يقول بغير ذلك إلا كافر.
ثم عقد الباب الذي نحن بصدده الآن للرد على الواقفة الذين توقفوا في قولهم مخلوق أو غير مخلوق، وإنما قالوا: القرآن كلام الله، ولم يقولوا: هو مخلوق أو غير مخلوق، فقال رحمه الله: [باب الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، خلافاً للطائفة الواقفة التي وقفت وشكت وقالت: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق].