لقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام الأمة على المحجة البيضاء ناصعة البياض لا اختلاف فيها ولا تفرق ولا تشرذم، ولم يتركنا ونحن في حاجة إلى معرفة شيء من أمر ديننا إلا بمستجدات الحياة التي لها أصول في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إما بها تلحق أو عليها تقاس، والفقه متجدد في كل زمان ومكان، ولذلك أصوله في الكتاب والسنة، أما أن تجد لكل حادثة في حياة الناس نصاً يخصها في الكتاب والسنة فلا، فإنما الكتاب أصول وعمومات بينته وشرحته وفصلته وقيدته السنة المطهرة، وعلى هذين الأصلين انبثق الإجماع، ومن الإجماع كان قياس الفرع على الأصل لاتحاد العلة، وهذا حال الناس إلى أن تقوم الساعة.
أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد ترك هذه الأمة لا ينقصها شيء، وقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم ما جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم بغير لم؟ ولا كيف؟ ما سمعنا واحداً يقول للنبي النبي عليه الصلاة والسلام: لم كذا يا رسول الله؟ وكيف كذا يا رسول الله؟ بل آمنوا بما ذكره الله تعالى من نصوص الأسماء والصفات للرب تبارك وتعالى خاصة، وأثبتوها كما جاءت، واتفقوا على إقرارها وإثباتها والإيمان بها وإمرارها مع فهم معانيها، فانظر إلى هذا القيد: (مع فهم معانيها)، حتى لا نقع فيما وقع فيه أهل البدع من تأويل أو تفويض للمعنى، وإنما نفهم المعاني كما نثبت الحقائق، ومع نفي العلم بكيفيتها نثبت حقيقة الصفة، وننفي العلم بكيفية هذه الصفة؛ لأنه لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، فقد وصف الله تعالى نفسه بصفات، وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، فأخبر أنه يحب ويكره، ويمقت ويغضب، ويسخط ويجيء ويأتي، وينزل إلى السماء الدنيا، واستوى على العرش، وأن له علماً وحياة وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً ووجهاً، كل ذلك من الصفات الخبرية وغير الخبرية أثبتها الله تعالى لنفسه.
وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب من عباده، وأنه مع المحسنين ومع المتقين، ومع الصابرين، وأن السموات مطويات بيمينه، ووصفه رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى.
كل ذلك قد آمن به الصحابة ومن بعدهم التابعون بغير أن يسألوا: كيف يده يا رسول الله؟! وكيف وجهه يا رسول الله؟! وكيف نفسه يا رسول الله؟! وكيف سمعه؟ وكيف إرادته؟ وكيف مشيئته؟ وإنما آمنوا بذلك كله على الوجه اللائق بالله عز وجل.
فوصفه الصحابة بهذه الصفات الكاملة من غير تشبيهه بأحد من خلقه، ولا تعطيل له عن صفاته، ولا تمثيل له بغيره، ولا تأويل وصرف عن ظاهر هذه النصوص، آمنوا بذلك، وفروا من الابتداع في الدين، وأعظم الابتداع ما كان في أصل الدين، وفي ذات الإله وفي أسمائه وصفاته، وأمروا بالاقتداء لا الابتداع.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنا نقتدي ولا نبتدي.
هذا ابن مسعود وهو سادس ستة في الإسلام -أي: من كبار الصحابة، ومن المهاجرين الأوائل- قال: إنا نقتدي ولا نبتدي، أي: لا ننشئ أمراً جديداً، وإنما نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا نتبع أمراً من عند أنفسنا.
قال: ونتبع ولا نبتدع، أي: نتبع النهج القويم الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ولا نبتدع في دين الله.
قال: (ولن نضل) لن: لنفي الحاضر والمستقبل، قال: (ولن نضل ما تمسكنا بالأثر) أي: ما دمنا قد تمسكنا بقال الله وقال الرسول، كما قال ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه هكذا قال ابن القيم يحدد أصول العلم الشرعي.
لما سألني أحد السائلين المتفلسفين عن حكم الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام قلت: أليس أصل العلم الكتاب؟ قال: بلى.
ومن بعده السنة؟ قال: بلى.
ومن بعده الإجماع؟ قال: بلى.
قلت: هل جاء الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام في القرآن؟ قال: لا.
في السنة؟ قال: لا.
هل احتفل النبي صلى الله عليه وسلم بميلاده؟ قال: لا.
احتفل الصحابة بميلاده؟ قال: لا.
التابعون؟ قال: لا.
هل أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من ذلك؟ قال: لم يقع منهم شيء من ذلك حتى يقر أو يثبت.
قلت: لو كان خيراً هل يصح أن يحجبه الله عن نبيه والصحابة الكرام ويظهره لنا؟ قال: مستحيل.
قلت: إذاً: قد أجبت.
قال: أنا ما أجبت.
قلت: أنت قلت: هذا بدعة وحرام؛ لأن الحرام هو فعل ما لم يكن في القرآن ولا في السنة، ولا أجمع عليه العلماء خاصة الصحابة رضي الله عنهم، فقال: لكن هذا شيء لابد لنا منه، قلت: هذه مقولة المبتدعة في كل زمان يقولون هذا، ويقولون: ما الضرر من هذا إنما يذكرنا هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنتهى البلاء أن تتذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في كل عام مع أنك لا تنسى أباك، ولا تنسى أمك ولا صاحبك، بل ربما تستيقظ من النوم قبل ميعادك لتنظر في وجه صاحبك؛ لفرط محبتك له، فهل