الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
في الدرس الماضي تكلمنا عن الجهم بن صفوان وعن شيخه الجعد بن درهم، وفي الجملة تكلمنا عن سلسلة أهل النار التي هي سلسلة مشايخ الجهم بن صفوان الذي هو زعيم الجهمية، وأن أصل بدعة التجهم إنما نشأت في الإسلام عن طريق سوسن النصراني العراقي والذي كان شيخاً للجعد بن درهم، وأصل هذه البدعة هو لبيد بن الأعصم، ذاك اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدنا أن نتكلم عن مذهب الجهمية.
إذا كنا في الدرس الماضي تكلمنا عن الجهم الذي هو مؤسس هذا المذهب، فالكلام في هذه الليلة وما يتلوها بإذن الله تعالى عن الجهمية.
لقد بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، فبلغ البلاغ المبين، وأوضح للناس المنهج القويم الذي يجب أن يسيروا عليه في هذه الحياة، حتى يلقوا ربهم تبارك وتعالى، فتركهم عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها أحد بعده إلا هالك، وبالتالي لم يكن هناك خلاف ولا اختلاف في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان من شيء ينشأ عند الصحابة إلا ويبادرون بسؤال النبي عليه الصلاة والسلام؛ فيقيمهم على الجادة.
فهؤلاء الذين سول ووسوس لهم الشيطان في ذات الله عز وجل -لأن أعظم البدع المتعلقة بذات الله أو بأسمائه وصفاته- أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا لتحدثه نفسه بالشيء لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم فيه) ومع هذا لم ينقلوا أصل الوسوسة للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما فهم عليه الصلاة والسلام ما عنه يتحدثون، فقال: (ذاك صريح الإيمان) أي: خوفكم أن تتلفظوا به يدل على إيمانكم الكامل والتام، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق الجبال؟ من خلق الأنهار؟ من خلق السموات؟ من خلق الأرض؟ فتقولون: الله، فيقول: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟!)، هذا هو عين الوسوسة التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وبين العلاج فقال: (فإذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا -أي: جاهدوا أنفسكم ألا يستقر هذا الوسواس في قلوبكم- وقولوا: آمنا بالله ورسوله)، فهذه ثلاث علاجات حددها النبي عليه الصلاة والسلام.
إن الشيطان قد جثم على صدور أهل البدع والأهواء من بعد النبي عليه الصلاة والسلام، مع أن أصول هذه البدع قد ظهرت بوادرها في زمنه عليه الصلاة والسلام كالخوارج مثلاً، فالخوارج جاء زعيمهم وهو التميمي المعروف، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم الغنائم: اعدل يا محمد! هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ ثم ولى الرجل فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يخرج من ضئضئ هذا - أي: من صلب هذا ومن ظهره- أناس تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
فهذا كان أصل الخوارج، وهذا الرجل هو جدهم الأكبر وأبوهم الأعظم.
انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل البدع أنهم من أشد الناس اجتهاداً في العبادات: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم) أنتم يا أهل السنة! ويا معشر الصحابة! إذا رأيتموهم في حال عبادتهم احتقرتم صلاتكم وصيامكم وزكاتكم وقراءتكم للقرآن، ولذلك ينطلي على كثير من العامة بدع المبتدعين إذا رأوهم قد تنسكوا وتمسحوا بمسوح أهل العبادة والزهاد، ويقولون: كيف ذلك؟ هذا الرجل يصلي ويصوم ويزكي، بل ويحج كل عام، ومتصدق جواد ينفق على الفقراء والأيتام، وإذا رأيته في قيام الليل فحدث ولا حرج، بل وفي الجهاد وغير ذلك! إن المنافقين كانوا يجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام وهم من أهل النار، وكان يعرضون أنفسهم لبريق السيف مع نفاقهم، فليست العبادة دليلاً على صلاح العابد، بل ربما يكون من أعبد الناس، وقلبه أقسى من الحجارة، ويأتي بنواقض الإسلام كلها.
وهذا رجل آخر -وهو من الخوارج كذلك- كان يجمع الناس فيجعلهم حلقاً في المسجد، فيجعل على كل حلقة أميراً وكبيراً يلقي لهم الحصى، فيقول: كبروا مائة، سبحوا مائة، احمدوا مائة، فلما رأى ذلك أبو موسى الأشعري -وكان ذلك في الكوفة- قال: أتيت إلى ابن مسعود رضي الله عنه فانتظرت على باب بيته حتى خرج قال: ما شأنك يا أبا موسى؟! قلت: رأيت شراً، قال: هل أنكرت؟ قلت: لا، فجاء عبد الله بن مسعود