قال: [وعن سفيان قال: وقف غيلان على ربيعة]، وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ربيعة الرأي، وكان شيخاً للإمام مالك في المدينة، وقد ورد في ترجمته قصة طويلة أنكرها الإمام الذهبي في السير، ولا داعي لسردها، أي: في طريقة تربية الإمام، ولا داعي لسردها ما دامت باطلة، ويكفي في ردها بطلانها.
قال: [وقف غيلان الدمشقي على ربيعة الرأي -وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني - فقال: يا ربيعة! أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال ربيعة: ويلك يا غيلان! أنت الذي تزعم أن الله يعصى قسراً؟].
وللعلم هذا النص من أغلى النصوص عند أهل السنة والجماعة، فهي مناظرة تمت بكلمتين بين غيلان الدمشقي المبتدع القدري، وبين ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي إمام السنة.
قال غيلان: يا ربيعة! أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يُعصى؟ أليست هذه المعصية تمت بقدر الله عز وجل، وبإرادة الله عز وجل، أم هناك أحد يستطيع أن يعصي الله تعالى قسراً ورغماً عن الله؟ أيستطيع أحد فعل ذلك؟ أيستطيع أحد أن يقول: أنا سأزني أو أقتل أو أسرق أو أشرب الخمر رضي الله أم أبى، شاء أم أبى، أيستطيع أحد أن يقول ذلك؟ لا، فالزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والصلاة بقدر، والصيام بقدر، وكل ما يكون في الكون بقدر، علمه الله تعالى في الأزل، وكتبه في اللوح المحفوظ، سواء كان خيراً أو شراً، ولا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن الخير والشر من عند الله عز وجل.
فهو يقول له: ألستم تقولو يا أهل السنة: ما من شر في الأرض إلا والله يحبه؟ وهذا الكلام خطأ، فنبعد كلمة: (يحب)، ونضع بدلها كلمة (يريد).
والعجيب أنني وجدت هذا النص بهذا السياق هنا، وهو في كل كتب السنة: يا ربيعة أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى؟ وهو نص صحيح، وأنا أتصور أن هذا تصحيف في هذه النسخة، لأن هذا خطأ عظيم جداً، ولا يمكن لـ ربيعة أن يقع في هذا الخطأ العظيم.
وفي الدرس الماضي سألت سؤالاً فقلت: لو أنك بقيت سنة وأنت تدرس القدر، وفهمت ما قلت لك فإنك ستجيب الجواب الصحيح، وقلت لك: هل يجب الإيمان بالقضاء والقدر والرضا به؟ فاختلطت أقوال الناس، فبعضهم قال: لا، وبعضهم قال: نعم، والجواب التفصيل: أما السؤال الأول: هل يجب الإيمان بالقضاء والقدر؟ ف
صلى الله عليه وسلم نعم، يجب الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله.
وأما الرضا بالقدر فإننا نرضى بما قدره الله شرعاً، ولا نرضى بما قدره كوناً، فلا نرضى بالمعاصي؛ لأننا لو رضينا بالمعاصي فقد رضينا بما أسخط الله وبما سخطه الله، فالله تعالى أراد القتل، وأراد الزنا، والسرقة وسائر المعاصي، ومعنى كلمة (أراد) أي: أذن في وقوعها في الكون، وعلم أن هذا العبد عامل لها، مقترف لها، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن العبد مدرك ذلك لا محالة، هذا معنى: أن الله تعالى أراد المعصية، أي: أذن في خلقها ووجودها في الكون.
ولذلك ليست هي إرادة شرعية دينية، وإنما إرادة كونية قدرية، وبين الإرادة الشرعية الدينية والكونية القدرية عموم وخصوص، فكل إرادة شرعية دينية كونية قدرية، وليس كل إرادة كونية قدرية شرعية دينية، فالصلاة إرادة شرعية دينية ومع هذا هي كونية قدرية، فنحن نحب مِن قدر الله الذي وقع في الكون ما أراده ورضيه شرعاً، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك، ونسخط ما وقع بإرادة الله تعالى في الكون من معاصي وكفر وفسق وظلم وغير ذلك من كبائر وصغائر، وإن كنا نؤمن أنه وقع بقدرة الله عز وجل، لكن نسخطه لأن الله تعالى سخطه وأبغضه، وحذر منه، ونهى عنه ورتب عليه العقوبات.
قال: [يا ربيعة! أنت تزعم أن الله يريد أن يعصى؟!].
وكلمة: (يريد أن يعصى) أراد بها ربيعة أن الله أراد ذلك إرادة كونية قدرية، لا شرعية دينية.
فقال ربيعة: [ويلك يا غيلان! وأنت الذي تزعم أن الله يعصى قسراً؟!] يعني: أيستطيع أحد أن يعصي الله رغماً عن الله؟ فلا يستطيع أحد أن يتحرك حركة ولا يسكن سكنة إلا بإرادة الله.
فهذه المناظرة مناظرة عزيزة جداً تكتب بماء الذهب عند أهل السنة والجماعة.