امتن الله سبحانه على عباده بالصيد، وجعله من المباحات، ولما ذكر المحرمات في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] إلخ الآية، ذكر ما أحل لهم بقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] أي: وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] فأفاد بأن مما أحله الله تعالى، وجعله من الطيبات، هذه الظباء والوعول -والوعل الأنثى هي الأروى، والكبير من الوعول هو التيتل- وحمر الوحش، وبقر الوحش، وغنم الوحش -وهي دواب تشبه الضأن، وهي أنواع من الوعول- وكذلك ما يشبهها مما هو حلال طيب داخل في قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5] ، واصطيادها وإمساكها للإنسان فيه طرق ومسالك يسلكها، ويتوصل بها إلى إمساكها بأية وسيلة، لكن لابد أن تكون تلك الوسيلة مباحة، ونسمع أن كثيراً يأتون إلى الضب وهو في جحره فيوقدون عليه حتى ربما احترق في جحره من الدخان ومات في جحره، فمثل هذا تعذيب لا يجوز؛ وذلك لأن تعذيب الحيوان بالإحراق إفساد له، وتعذيب له بغير حق، أما صب الماء في جحره إلى أن يشعر بالماء ثم يخرج لئلا يغرق فهذا جائز، وكثيراً ما يحصل خروج الأضب من جحورها بواسطة نزول السيل ودخوله في جحورها، فعند ذلك تخرج، فيلحق بذلك إذا صب في جحره من الماء حتى يخرج، وأما ما يفعله بعضهم من إيقاد عليه، أو عمل من الأعمال الجديدة كإحراقه بالسيارات أو نحوها فنرى أن ذلك من التعذيب ومن الأذى.
أما الصيد بالمعراض، فالمعراض: هو العصا التي ليست بمحددة، ولكن قد يكون رأسها يخرق، فإذا رمى صيداً ولو صغيراً -كعصفور أو حمّرة أو حمامة أو نحو ذلك- بهذا المعراض فإن كان المعراض قتله بثقله فلا يحل، وهو داخل في الموقوذة التي هي من جملة المحرمات، والموقوذة: هي التي تضرب إلى أن تموت، تضرب بعصا أو بحجارة إلى أن تموت دون أن تذكى -أي: تذبح- فلو استعصت شاة أو ناقة أو ثور لم يجز قتله بالمثقل، فلا يجوز أن يضرب بالحجارة أو بالعصي إلى أن يموت، لكن يجوز رميه بالسهام إذا نفر وهرب، ففي حديث رافع بن خديج: أنهم كانوا في سفر فندّ بعير -يعني: هرب-، ولما هرب رماه رجل بسهم فأثبته، فذلك السهم الذي رماه به خرق جلده وخرق بدنه وجوفه، فسقط ذلك البعير من آثار ذلك السهم، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أكله، وقال: (إن لهذه الدواب أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فافعلوا به هكذا) ، أما كونه يضرب بعصي إلى أن يموت فإن هذا وقيذ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ما قتل بالمعراض بالوقيذ، فإذا رميت بالعصا صيداً طائراً أو حيواناً كيربوع أو أرنب أو ضب فقتله بالثقل فلا تأكله، وكذلك لو رماه بحجر ثقيل فشدخه ولم يجرحه، فمات من آثار الحجر، فإنه يلحق بالوقيذ فلا يحل أكله، ولو سمى عليه؛ وذلك لعدم الجرح فيه، ولا يلحق بالكلاب لأن الله أباح الصيد بها بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، فلا يدخل المعراض في إمساك الجوارح ونحوها.
والسهام هي النبال، تكون محددة رءوسها، تقطع من شجر العضاة، ثم تحدد حتى تكون كرأس السكين، فإذا رموا بالسهم توجه إلى الرمية وطعنها؛ لأنه يقع على حده، فينفذ في الرمية؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أي: من المرمي كالظبي ونحوه، فهذا السهم قد يقتل، فتأتي إلى الصيد وقد قتله ذلك السهم سواءً كان ظبياً أو حماماً أو حبارى أياً كان، فإذا وجدته قد قتله وأنت قد سميت عند الرمي فإنه مباح وحلال أكله، أما إذا أدركته حياً فلا بد من ذكاته؛ لأنك قدرت على الذكاة فلابد أن تذبحه، ولا يجوز تركه والحال هذه بدون ذكاة، ومن فعل ذلك فإنه يعتبر مفرطاً، وكذلك لا يجوز تجاوزه وهو حي، فإذا رميته وأدركته وهو حي فلا تتجاوزه وتذهب لغيره، بل عليك أن تذكيه، فإن تركته حتى مات اعتبرت مفرطاً فلا تأكل، ويذكر أن بعض الصيادين إذا طردوا الظباء ونحوها رموا واحداً وأثبتوه فسقط، ثم واصلوا السير ليرموا الثاني، فيرجعون إلى الأول وقد مات، ومن العلماء من أفتى بأكله لأنه مات من أثر السهم، ومنهم من قال: لا يؤكل ما دام أنهم قدروا على ذكاته وتجاوزوه، ولعلهم إذا عرفوا أن السهم لا يقتله في تلك الحال، بل يبقى ساعة أو نصف ساعة؛ ففرطوا ولم يذبحوه فإنه لا يؤكل، وأما إذا عرفوا أن الصيد لن يبقى إلا ثواني -كما لو أصابه السهم في رأسه أو نحره- ففي هذه الحال لهم أن يأكلوا منه وإن تجاوزوه بلا تذكية حتى مات.
وإباحة الصيد من نعم الله تعالى، حيث إن الإنسان يشتاق إلى مثل هذه الصيود التي فيها منفعة، وفيها لذة، ولو كان اللحم متوافراً.