ثم ذكر فائدتين للنكاح: الأولى: غض البصر.
والثانية: تحصين الفرج.
وغض البصر يعني خفضه عن النظر إلى النساء، وذلك لأنه إذا كان متزوجاً فإنه في الأصل يقتصر على النكاح الحلال، يقتصر على زوجته ولا ينظر إلى غيرها، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه في الغالب يهوى أن ينظر ويقلب نظره، ومعلوم أن تقليب النظر في النساء يورث الفتنه، فكم نظرة أورثت حسرة، فلأجل ذلك أمر الله بغض البصر، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] .
فالزواج سبب في غض البصر، فالمرأة تغض بصرها فلا تنظر إلا إلى زوجها، والرجل يغض بصره لا ينظر إلا إلى زوجته، فيحصل بذلك مصلحة للطرفين، وأما مع عدمه فإن النظر قد يجره إلى ما وراءه، ولأجل ذلك ورد في الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس) ، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك) يعني: إذا نظرت نظر فجأة من دون قصد فلا تتمادى بل اصرف بصرك، وقال في حديث آخر: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) .
وقد تكاثرت الأدلة في أن النظر يسبب الوقوع في الفاحشة أو في مقدماتها، كما قال بعضهم: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء يعني أن أولها نظرة، ثم بعد النظرة تكون هناك ابتسامة بين الناظر والمنظور، أي: بين الرجل والمرأة، ثم بعد ذلك يأتي بسلام، ثم يعقب السلامَ كلامٌ، ثم بعد ذلك يكون هناك موعد يتفقان عليه، ثم يحصل اللقاء الذي لا تحمد عاقبته.
ولا شك أن هذا مبدؤه من النظر، ولذلك يقول بعضهم: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر فلا شك أن الكثير من الناس قد يطلقون أبصارهم وينظرون إلى النساء وإن كانوا متزوجين، ولكن لا يفكرون في العاقبة السيئة التي تورثها تلك النظرة، وذلك لأن الذي ينظر إلى النساء ويقلب أحداقه نحوهن ليس قادراً على أن يشبع نهمته، وليس قادراً أيضاً على أن يحصل على كل من نظر إليها من النساء، فإذاً الأولى أن يغض بصره كما أمره الله بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] .
وقد قال بعضهم: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً عذبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر فهل تقدر على أن تتصل بكل من رأيتها من النساء، إذا رأيت هذه فأعجبتك ثم هذه ثم هذه فرأيت عشراً أو عشرين هل تستطيع أن تأتيهن كلهن وأن تتحصل عليهن كلهن بالطريق الحرام؟! لا تستطيع، إذاً فما عليك إلا أن تغض بصرك وأن لا تنظر إلا إلى ما أباح الله لك.
فقوله عليه الصلاة السلام: (فإنه أغض للبصر) فيه الحث على غض البصر.
الفائدة الثانية: تحصين الفرج، ومعناه: حفظه عن فعل الفاحشة التي هي الزنا ونحوه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحصن للفرج) فيه حث أيضاً على حفظ الفرج عن الحرام.
التحصين أصله: الحفظ، ومنه قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] يعني: حفظته.
ومنه سميت المحصنات في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] أي: المحصنات اللاتي أحصن أنفسهن وحفظن فروجهن.
فلا شك أن الإنسان المؤمن إذا رزقه الله امرأة حلالاً اقتصر عليها وحفظ فرجه ولم يتعد إلى غيرها وكان معه إيمان يمنعه، أما إذا كان ضعيف الإيمان فإنه قد لا يقنع بما أباح الله له، ويشاهد في هذه الأزمنة كثير من الناس -والعياذ بالله- يكون عند أحدهم زوجة حلال ولكنه لا يقنع بزوجته، فتراه يذهب إلى الأسواق ومجتمعات النساء ويعاكس هذه ويغازل هذه ويتكلم مع تلك.
وتراه أيضاً يتصل هاتفياً بفلانة وبابنة فلان ويعقد معها موعداً، يتصل بها اتصالاً محرماً والعياذ بالله، فلم يقنع بما أباحه الله له لأنه لم يكن معه حاجز إيماني، لم يكن معه تحصين إيماني، فالتحصين الإيماني هو الذي يحفظ الإنسان ويمنعه من اقتراف الحرام، لكن إذا كان شاباً ولم يكن معه زوجة فقد يكون عذره أخف إذا أطلق بصره أو نظره وإن كان ملوماً، لكن إذا رزقه الله إيماناً ورزقه نكاحاً حلالاً حصن فرجه وحفظه ولم يطلق بصره إلى ما حرم الله عليه.
فهذا بلا شك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم رفيق بأمته، فلما علم أن الشباب هم أقوى شهوة وميلاً إلى النكاح حثهم عليه ورغبهم فيه، ونحن كذلك نحث شباب المسلمين على أن يبادروا بالزواج وأن لا يؤخروه، نحثهم كما حثهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول لهم: تزوجوا بحسب قدرتكم.
ونقول أيضاً للأولياء: لا تحبسوا النساء ولا تؤخروهن، فإذا بلغن النكاح وأتاكم من هو كفءٌ كريم فلا تردوه فتحصل المفسدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) ، فهو عليه الصلاة والسلام حذر من رده إذا كان كفئاً مخافة أن تتعطل النساء إذا رد هذا الكفء، وكذلك يتعطل هذا الكفء، ويتعطل الشباب إذا رد هؤلاء وأولئك، فتحصل مفسدة عظيمة وهي انتشار الفاحشة أو مقدمات الفاحشة.