قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي ومالكاً وسعيد بن عبد العزيز يُنكرون على من يقول: إقرار بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل.
قلت: فمن كانت طاعاته وحسناته أكثر فإنه أكمل إيماناً ممن كان قليل الطاعة كثير المعصية والغفلة والإضاعة.
وقال أحمد بن سعيد الرباطي: قال لي عبد الله بن طاهر: يا أحمد إنكم تبغضون هؤلاء القوم جهلاً، وأنا أبغضهم عن معرفة، إن أول أمرهم: أنهم لا يرون للسلطان طاعة، والثاني: أنه ليس للإيمان عندهم قدر، والله لا أستجيز أن أقول: إيماني كإيمان يحيى بن يحيى، ولا كإيمان أحمد بن حنبل، وهم يقولون: إيماننا كإيمان جبريل وميكائيل].
هذا لازم قول المرجئة، وقد تفهم أنت فهماً خاطئاً بأنه يلزم من كلامه كذا، لكن لا يلزم ما دام يمكن أن يفسر كلامه، أما العقيدة التي تستمر وينظر فيها الناس ويواجهها السلف ويواجهون أصحابها ويناظرون فيها، فإن اللازم يلزم فيه حتى لو لم يلتزمه صاحبه، ولذلك بدّعوا كل من قال بالإرجاء حتى وإن فهم الإرجاء فهماً يخالف فهم المرجئة؛ لأنه يعد مبتدعاً بمجرد تعلقه بالإرجاء، وهذه مسألة مهمة جداً يجب أن نفهمها فيما يتعلق بأفعال الناس وأقوالهم.
فنأخذ المرجئة مثالاً: إذا كان الإنسان على مذهب المرجئة، أو قال ببعض أقوال المرجئة، أو انتسب للمرجئة انتساب تمذهب ففي كل هذه الأحوال نعده مبتدعاً، ومع ذلك قد يفسّر الإرجاء بتفسير يخالف المرجئة، لكن كونه وقع في رفع الشعار فقد ابتدع، لكن بدعته أخف، والدليل على هذا أن أئمة السلف أنكروا على أبي حنيفة تعلقه بالإرجاء، مع أنه لم يلتزم ما التزمته المرجئة المتأخرة من التساهل بالأعمال، بل العكس فقد كان أبو حنيفة ومن حوله من الأئمة في ذلك الوقت الذين يقولون بالإرجاء كانوا يعظّمون الأعمال، وكان عندهم من الزهد، والورع، والاستقامة، والحرص على الفرائض، وعدم التفريط، والبعد عن المعاصي، ما يجعلنا نجعلهم كسائر أئمة السلف، بل ربما يفوق بعضهم بعض الآخرين، لكن اللازم يلزمهم اعتقاداً وعلماً بأن هذا لازم المذهب، لا سيما أنه مذهب مقنن ومقرر، له مناهج وأصول وبقي في الناس، فعلى هذا نقول: إن من لازم قول المرجئة، سواء التزمه بعضهم كما صرحوا، أو لم يلتزم كما نفى بعضهم، أنه ما داموا قالوا بأن الإيمان هو التصديق، فيلزم من قولهم هذا أن الناس على حد سواء في إيمانهم، سواء من كان أعظم إيماناً كالملائكة والنبيين والصدّيقين والصالحين، أو من كان أضعف إيماناً كأصحاب المعاصي والفجور؛ لأنهم كلهم صدّقوا، والتصديق في حد ذاته لا يزيد ولا ينقص، إنما قد يزيد اليقين، وبعضهم يخرج اليقين عن مقتضى التصديق، فعلى هذا يعتبر من لوازم قولهم أنه ليس للإيمان عندهم قدر؛ لأنهم قالوا: إيمان أحمد بن حنبل كإيمان جبريل وميكائيل.
والمرجئة في عهد السلف كانوا أكثر إيماناً وأكثر التزاماً لعمل الصالحات والبعد عن المحرمات، لكنهم تأولوا، لكن جاء من بعدهم من المرجئة المتأخرين فصدقت فيهم فراسة السلف، فإن أمرهم أدى إلى الإعراض عن الدين، وفعلاً المرجئة الآن من أكثر الناس إعراضاً عن الدين، وإن كانوا يتفاوتون.
وأما كونهم لا يرون للسلطان طاعة، ففي الحقيقة هذه مسألة تخفى على كثير من طلاب العلم، وهي مسألة مهمة جداً فيما يتعلق بمناهج أهل الأهواء، فمن السمات والمناهج والأصول المشتركة عند جميع أهل الأهواء أنهم كلهم لا يرون للسلطان طاعة، كالمرجئة، والقدرية، والجهمية، والمعتزلة، وأهل الكلام المتأخرين، وخاصة أهل الكلام بالذات، أما من انتسب للكلام كبعض الأشاعرة والماتريدية فقد يقولون بقول السلف في مسألة السلطان، لكن من أصول مذاهبهم أنهم يرون الخروج على السلطان وعدم طاعة السلطان، كذلك من قبلهم الخوارج والسبئية الرافضة ومن سلك سبيلهم كلهم لا يرون للسلطان طاعة، وهذا مبدأ عام عند جميع الفرق إلا النادر، والنادر لا حكم له؛ فلذلك كان بعض السلف يسمون كل أهل الأهواء -أياً كانت شعاراتهم- خوارج، حتى لو لم يكونوا خوارج خلّص، مثل تسميتهم كل من أنكر كلام الله بأنه جهمي، وتسميتهم كل من أنكر الرؤية بأنه جهمي، وقد يكون هذا المنِكر لا يعرف الجهمية ولا يدري ما الجهمية.
فالشاهد: أن من سمات المرجئة قديماً وحديثاً أنهم لا يرون للسلطان طاعة، بمعنى: أنهم يرون الخروج ويستجيزونه، ويخالفون السلف مخالفة جزئية أو كلية في مسألة التعامل مع السلطان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: قدم ابن المبارك الري فقام إليه رجل من العُبّاد -الظن به أنه يذهب مذهب الخوارج- فقال له: يا أبا عبد الرحمن! ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا أخرجه من الإيمان، فقال: يا أبا عبد الرحمن!