الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [قال سفيان بن عيينة رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد تقول: ينقص؟ فقال: اسكت يا صبي! بلى ينقص حتى لا يبقى منه شيء].
وهذا يعني أنه لا يزول بالكلية، وقوله: (لا يبقى منه شيء) يقصد: المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث الصحيح: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، واختلف أهل العلم في معنى زوال الإيمان هنا، أي: نفي الإيمان عن الشخص هل هو زوال أصله بالكلية، أو زوال مقتضى الإيمان، أو زوال الأثر، أو المقصود بأن الإيمان قد يرتفع ويعود؟ ولكل قول دليله.
فالذين قالوا: بأنه يبقى أصله، قالوا: إن هذه الأحاديث التي فيها معنى أن الإيمان يزول، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فهذه أحاديث وعيد، وهو قصد كمال الإيمان، وقصد مقتضى الإيمان.
والذين قالوا: إنه يزول بالكلية ويعود، استدلوا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) فقالوا: إن الإنسان إذا عرض له عارض يقتضي كفره قد لا يبقى هذا العارض، فيكون كفراً غير مخرج من الملة، كذلك زوال الإيمان هنا لا يخرجه من الملة، فيبقى عنده أصل الإيمان ويزول مقتضاه، وهذا هو الأقرب؛ لأنه لو وقع في الردة لترتب على ذلك أحكام كثيرة، من طلاق لزوجته، ومن أمور كثيرة تحتاج لتجديد التوبة، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فإذا نظرنا إلى عموم النصوص فإنا نجد أن مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) هي من أحاديث الوعيد، وأنه يعني بذلك الإيمان المطلوب من العبد، أما أصل الإيمان ومبدؤه فهو باقٍ، فعلى هذا يكون المقصود هنا -والله أعلم- أنه لا يبقى منه شيء من مقتضياته ولوازمه، لكن لا يزول أصلاً.
وأما النفاق فهو لون آخر، فالنفاق الخالص يكون صاحبه خالياً من الإيمان، حتى من أصل الإيمان، أما النفاق غير الخالص -وهو وجود خصلة أو خصال النفاق- فهذه تنقص الإيمان، وقد يقال بأن هذا لا يكون مؤمناً حين يفعل هذا الفعل، لكن لا يعني خروجه من الملة؛ لأن مسألة نفي الإيمان أو نفي الإسلام أو الحكم بالكفر لا تعني دائماً الخروج من الملة مطلقاً، ويبقى خيط من بقاء أصل الإيمان عند الإنسان وهو مقتضى الفطرة ومقتضى الأصل عند هذا الإنسان الذي لم يرد عندنا ما نجزم به من خروجه من مقتضاه، ومثل هذا نصوص كثيرة فيها نفي الإيمان، أو نفي الإسلام، أو نفي أن يكون من الأمة، أو أن يكون ممن ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في أشياء كثيرة: (ليس منا)، وقال: (من غشنا ليس منا)، وقال: من فعل كذا فقد كفر، وذكر خصالاً في الأمة فعلها كفر، فهذه نصوص وهناك نصوص أخرى تقتضي أنه لا يخرج المسلم من الإسلام أو من الإيمان بالكلية إلى الردة إلا بما يخرجه بالكلية أو بقاطع من القواطع التي تخرجه من الملة، فإذا جمعنا بين هذه النصوص نجد أن المقصود هنا نفي الكمال، ونفي المقتضى، ونفي اللوازم، ونفي الأثر، ومثله نفي الإيمان عمن يعمل كبيرة؛ لأنا نعلم قطعاً أن الكبيرة لا تخرج الإنسان من الملة، ومثل هذه الكبائر: الزنا، والسرقة وغيرهما.
فإذا كنا نعلم قطعاً أن الزنا والسرقة لا يخرجان الإنسان من الملة، وأنه يبقى مسلماً بمقتضى أحاديث ونصوص كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نجمع بين النصوص فنقول: هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ممكن أن يرتفع عنه مقتضى الإيمان تلك اللحظة، لكن يبقى الأصل وتبقى الجذوة الأساسية ثم تعود، فالفترة التي لا اعتبار لها في فعل ما ينافي الإيمان فترة ليست تبقى عند الإنسان، ولو بقيت فقد يخرج من الملة، فمثلاً: لو استحل إنسان الزنا استحلالاً ولم يفعله فإنه قد يخرج من الملة، لكن هذا الفعل وغيره لا يقتضي -والله أعلم- الردة، وما لم يقتض الردة لا نحكم بالمعنى الأشد فيه، بل نحمله على معنى الوعيد، وعلى معنى زوال المقتضى، وزوال اللازم، وزوال الأثر ونحو ذلك.
أما حلاوة الإيمان المطلقة فلا تكون إلا بالكمال، لكن الشعور بحلاوة الإيمان قد يتجزأ، فالإنسان قد يجد حلاوة الإيمان في عمل من أعمال الخير، حتى وإن كان عنده قصور في الأمور الأخرى، وهذا أمر معلوم، والإنسان قد يجد حلاوة الإيمان في بعض أعمال الطاعات التي يعملها وإن قصر أو أذنب في أمور أخرى، لكن من تكاثرت ذنوبه قد يفقد حلاوة الإيمان، ومن كان الأغلب عليه الاستقامة والصلاح قد يجد كمال حلاوة الإيمان، والله أعلم.