أكمل المصنف رحمه الله الكلام على صفة الاستواء، وقرر بعض الأصول المنهجية التي خالف فيها أهل الأهواء أهل السنة، ثم عاد إلى تقرير الصفات تفصيلاً، ومن الصفات التي سيقررها صفة نزول الرب سبحانه وتعالى، وهذه الصفة ثبتت بأحاديث صحاح لا يمكن دفعها، وهي من الصفات الثابتة لله عز وجل على ما يليق بجلاله دون تحكم في كيفيتها أو في لوازمها التي ربما توهم التشبيه، فالكيفية واللوازم التي توهم التشبيه يجب على المسلم ألا يعتقدها، وألا يقف عندها.
وهنا أنبه على مسألة نبهت عليها كثيراً وهي: أن كل صفة فعلية أحياناً قد يشتبه أمرها على بعض الناس خاصة غير المختصين، فيحسن الإشارة إلى أن أي سامع لخطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ولخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بأمور الغيب، وعلى رأسها أسماء الله وصفاته وأفعاله، إذا سمع شيئاً من ذلك مثل النزول قد يتوهم في خاطره أشياء، ويتخيل خيالات لا ينفك العاقل عن هذه الخيالات، فما الموقف من هذا الخيال؟ أقول: إن الخيال لا يستطيع الإنسان أن ينفك منه؛ لأن الخيالات هي الأمور التي تقرب معنى الحقائق، لكن يجب أن يعتقد السامع أنما يتخيله في حقيقة النزول ليس هو ما عليه الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه أحد صمد، ليس كمثله شيء.
فإذاً: ما تتوهمه وتتخيله عندما تسمع الصفات فاعلم أنه قطعاً ليس حقيقة الصفة، سواء كانت صفة ذاتية أو صفة فعلية، والصفة الذاتية مثل: اليد والعين، والصفة الفعلية مثل: النزول والمجيء، فهي صفات تثبت لله عز وجل على ما يليق بجلاله مع الجزم بأن هذا الفعل ليس كفعل المخلوقين، فالنزول ليس كنزول المخلوقين، ولا تلزم فيه اللوازم المعهودة في الأشياء المخلوقة.
وذلك لما نسي أهل الأهواء هذه القاعدة، قاعدة: أن ما نتصوره ونتوهمه ليس هو حقيقة في صفة الرب -أي: ليس هو كيفية صفة الرب- وقعوا في التشبيه، يعني: وضعوا للنزول كيفيات في أذهانهم فلما وضعوها اعتقدوها، فلما اعتقدوها عرفوا أن اعتقادها باطل، فأرادوا أن يفروا منها ففروا إلى أمر أشنع وهو التعطيل والتأويل، مع أن القاعدة: أن أسماء الله وصفاته وأفعاله حقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه، والله ما خاطبنا بها ولا خاطبنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم إلا لأنها حقائق، لكنها حقائق تختلف عن حقائق ما نعهده في المخلوقات.
إذاً: فالنزول يثبت لله عز وجل ثبوتاً قطعياً حقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه، مع نفي ما نتوهمه من التشبيه أو التكييف أو الهيئة أو الشكل أو اللوازم، إلا اللوازم التي تعتبر حقاً؛ لأن اللوازم نوعان: لوازم باطلة، وهي الكيفيات، ولوازم حق، وهي التي تستلزمها الصفات، فمن اللوازم الحق في مثل صفة النزول أن نعلم أن من لوازم نزول الله عز وجل: نزول رحمته؛ لأن الله عز وجل ينزل رحمة بالعباد، ولذلك يأمرهم بأن يدعوه، لكن ليس النزول هو الرحمة، إنما الرحمة لازم من لوازم النزل، وكما نقول في اليد: من لوازم إثبات اليد: الكرم لله عز وجل، ومن لوازم إثبات اليد: القوة، ومن لوازم إثبات اليد: القدرة، ومن لوازم إثبات اليد: الخلق، فهذه لوازم حق وكمال لله عز وجل، لكن لا نعدل بها عن أصل الصفة.
وكذلك النزول؛ نعلم أنه بنزول الله عز وجل تثبت رحمته ويثبت أمره وأيضاً قد تنزل ملائكته إلى آخره، هذه أمور تتعلق بلوازم الصفة، لكن لا نكتفي باللوازم عن إثبات الصفة، ولا يقال في الصفة: إنها تقصر على لازمها، بل هذا هو منهج أهل الأهواء.
إذاً: امتاز منهج السلف أنهم يثبتون الصفات بما في ذلك صفة النزول وكذلك الاستواء حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله مع إثبات اللوازم التي تقتضي الكمال لله سبحانه في هذه الصفات، أما ما نتوهمه ونتخيله فيجب ألا نعتقده، والانفكاك عن الخيال صعب؛ لأن كثيراً من ألفاظ الصفات لا يستطيع المسلم أن تثبت في ذهنه معانيها إلا بتخيله، لكن يجب ألا يعتقد الخيال، وأن يعرف أن الخيال أوهام في نفسه، وهو أمور وأمثال تقرب للحقيقة، والله أعلم.