قال المصنف رحمه الله تعالى: [سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ في كتاب (التاريخ) الذي جمعه لأهل نيسابور، وفي كتابه (معرفة الحديث) اللذين جمعهما ولم يسبق إلى مثلهما، يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته، فهو كافر بربه، حلال الدم، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) رواه البخاري].
في مثل كلام ابن خزيمة رحمه الله نجد أن السلف أحياناً يلجئون إلى مثل هذه الأساليب القوية الرادعة، لكن ذلك عندهم على شروط وضوابط، يعني: هذا الكلام قد يقول بعض الناس: إنه كلام فيه قوة وفيه قسوة، لكن الصحيح أنه مقتضى الضرورة والحال في ذلك الوقت؛ ففي عهد ابن خزيمة رحمه الله ظهرت بعض نبتات الجهمية والمعتزلة وقويت، ثم إنه كان في وقته بداية ميل للمتكلمين إلى أصول الجهمية؛ فمتكلمة الأشاعرة والماتريدية في عهد ابن خزيمة بدأت مناهجهم تميل إلى مسالك الجهمية والمعتزلة في صفات الله عز وجل، فاضطر إلى مثل هذه العبارات القوية؛ لأن فيها حماية لعقائد الأمة، لاسيما وهو إمام من الأئمة الكبار، فإذا صدر عنهم مثل هذا الكلام -وهم ممن تعتد الأمة بإمامتهم وتعتبرهم قدوة كـ ابن خزيمة في وقته فإنه كان يعتبر إمام المسلمين-، فإن صدور مثل هذا الكلام يعتبر بمثابة البيان الرادع القوي الذي يخوف به أهل الأهواء والبدع، ثم إنه يبين لأهل الغيرة من أهل الحل والعقد أن الأمر يحتاج إلى إجراء يحمي عقيدة الأمة، ثم إنه أيضاً يحصن العوام وأمثال العوام من عقائد الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم بمثل هذه الكلمات القوية الرادعة.
ولذلك يصدر هذا الكلام عن إمام لكن لا يمكن أن يصدر مثله عن طويلب علم مبتدئ؛ لأن هذا في الغالب يكون فيه تجاوز للحد من قبل من لم يكن له إمامة في الدين، ولذلك نجد أن الأمة في القرون الثلاثة الفاضلة كانت تمثل مثل هذه الأقوال القوية للسلف في حق رءوس الأهواء وكبارهم، فمثلاً: لما استفحل أمر معبد الجهني في القدر وقفت منه الأمة موقفاً حازماً بولاتها وعلمائها وعوامها، ثم لما ورث غيلان هذه البدعة القدرية وصار يدعو إليها علناً قسا معه السلف قسوة أدت إلى قتله لكف شره، مع أنهم لم يقولوا بكفره، لكن حكموا عليه بمثل حكم ابن خزيمة هنا، فصار حكمهم من أقوى المحصنات للأمة الرادعة لأهل الأهواء من ناحية والحامية لعامة المسلمين من العوام وطلاب العلم من ناحية أخرى؛ لأن الناس إذا سمعوا مثل هذا الكلام عن الأئمة عرفوا أن الأمر شنيع؛ فإذا قيل: إن غيلان قتل من أجل بدعته لا يجرؤ عامي ولا طالب علم أن يفكر باستساغة هذه البدعة مرة أخرى.
ثم لما ظهر الجعد بن درهم كذلك وأعلن القول بالتعطيل وحاوره العلماء ولم يجدوا منه استجابة للرجوع إلى الحق حكموا بقتله؛ كفاً لشره وفساده، وكان حكمهم -قبل أن ينفذ عليه الحد الشرعي- فيه واضح، ثم قالوا ذلك في الجهم بن صفوان، ثم قالوا ذلك في عدد من كبار المعتزلة والجهمية، وكما قال الشافعي في حق حفص الفرد، وكما قال غيره في ابن الراوندي وغيره في المريسي ثم لما صار وقت ابن خزيمة بدأت الجهمية والمعتزلة وأفراخ المتكلمين الأوائل تخرج أعناقها ببدعتها، فاضطر ابن خزيمة لمثل هذا الكلام، سواء امتثل كلامه أو لم يمتثل، فهو بمثابة الروادع القوية، ومن هنا نفسر قسوة ابن خزيمة رحمه الله على أهل البدع في ذلك الوقت؛ لأنه كان لابد من مثل هذا الإجراء والعبارات القاسية التي يكون بها الردع وتكون بها الحماية، وكذلك أي إمام تكون له إمامة وقبول عند الأمة قد يحمي الأمة بمثل هذه العبارات وبمثل هذه المواقف القوية، لكن ليس مثل هذا لكل من طلب العلم أو لكل من تصدى لبدعة، فقد ينتكس عليه منهجه، وقد يستفز الخصوم بمثل هذه العبارات إذا استعملها وهو غير مطاع، ولكن يأخذ الأمور على أصولها الشرعية بهدوء وحكمة.