الباب الرابع عشر: (باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسرى).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي - حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة وهو ابن سلمة بن الأكوع قال: حدثني أبي قال: (غزونا فزارة وعلينا أبو بكر -أي: كان أمير الجيش أبا بكر - أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فلما كان بيننا وبين الماء ساعة -الساعة في لغة العرب تطلق على بعض الوقت- أمرنا أبو بكر فعرسنا)] والتعريس: هو النزول آخر الليل للراحة، وليس للمبيت ولا للإقامة.
قال: (ثم شن الغارة) أي: بعد هذا التعريس شن الغارة، ومعنى شن: فرق الناس.
أي فرق أبو بكر الناس هنا وهناك، حتى يهيج العدو ويجعلهم في حيرة من أمرهم من يقاتلون، فإنه إذا تفرق الجيش هنا وهناك فإن العدو يحار: يُقاتل من ويدع من؟ وهذا من باب إشغال العدو، أو من باب فقدانه السيطرة على مواقع القتال والضرب، وهذه خطة عسكرية.
نسأل الله أن ينبه إليها إخواننا في أفغانستان وغيرها.
قال: [(ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبى، وأنظر إلى عنق من الناس -أي: جمع من الناس من فزارة- فيهم الذراري -أي: فيهم الأطفال الصغار- فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا)] وهذه خطة ظريفة: قوم من فزارة من الكفار أرادوا أن يلجئوا إلى الجبل؛ ليحتموا به، وذلك حينما رأوا الجنود تفرقوا هنا وهناك، قال: وخشيت أن أضربهم بسهم فيصيب الذراري، أي: أنه احترز بقدر الإمكان أن يصيب الأطفال وهذا هو الأصل، لكن إذا لم يكن قتل الكبار إلا بقتل الأطفال جاز، وأنتم تعلمون ذلك.
قال: [(فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم -أمامهم- وقفوا، فجئت بهم جميعاً أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع -أي: نطع: قطعة من الجلد- من أدم.
قال: مع ابنة لها من أحسن العرب)] أي: امرأة جميلة.
وانظر إلى قوله: (معهم ابنة لها من أحسن العرب) وهذا يدل على جواز أسر العرب؛ لأن بعض أهل العلم قال: لا يجوز أسر العرب، وإنما يجوز أسر غير العرب من العجم وغيرهم.
قال: [(فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلني أبو بكر ابنتها)]، وفي هذا رد على من يزعم أن النفل للرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، فقد نفله أبو بكر هذه المرأة الجميلة.
قال: [(فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً)] أي: وما كشفت لهذه البنت ثوباً، وهذا كناية عما يُستقبح ذكره إذا كان اللفظ يؤدي الغرض، وهكذا ألفاظ القرآن وألفاظ السنة رائعة أيما روعة في طرح هذه المسائل المستقذرة المستقبحة بأسلوب عربي أصيل مبين لا يثير الغرائز، فلو أن واحداً كُلف بكتابة قصة -ولتكن قصة يوسف عليه السلام- لربما كتب قصة أثارت غرائز كل من قرأها أو جُل من قرأها، ولكنك تقرأ بالليل والنهار سورة يوسف عليه السلام فلا تتحرك فيك كوامن الغريزة أبداً؛ لأنه كلام اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، وهذا الرجل سلمة بن الأكوع عبر بهذا.
قال: (وما كشفت لها ثوباً) كناية عن أنه لم يجامعها؛ لأنه بمجرد أن ينفله الإمام إياها حل له جماعها.
فقال: [(فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: يا سلمة! هب لي المرأة -أي: اعطها لي من باب الهبة- فقلت: يا رسول الله! والله لقد أعجبتني)] أي: أنها أعجبتني جداً، فكيف أعطيها لك؟ قال: [(وما كشفت لها ثوباً، ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال لي: يا سلمة! هب لي المرأة لله أبوك)] كأنه يقول: لله درك، وهذا من كلام العرب يُطلق للتدليل والمؤانسة.
فكأنه يقول له: يغفر الله لأبيك! أعطني هذه المرأة على سبيل الهبة.
[(فقلت: هي لك يا رسول الله!)] فانظروا إلى عدم ضن الصحابة رضي الله عنهم بأغلى ما يملكون للنبي عليه الصلاة والسلام، فهذه المرأة من أجمل بنات العرب، ومن يملكها منا لا يفرط فيها، وما ينزل بالمسلمين هو منهم ومن أنفسهم، فنحن نضن على الله تعالى بأموالنا وأنفسنا، والواحد منا يحب الدينار أكثر من حبه لله ورسوله، فإنه عند المحك الطبيعي الذي يحتك بحياتك تأبى أن تتحاكم للإسلام، أما في وقت السلام والإسلام لا يمس حياتك تزعم أنك تقبل الإسلام بكل نواحيه وجوانبه، فإذا ما مس الإسلام شيئاً من حياتك تبرمت وتنكرت وربما جحدت، أما سلمة فقال: [(هي لك يا رسول الله! فوالله ما كشفت لها ثوباً -إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام- فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين)].
انظروا! فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ي