الباب الخامس عشر: (باب حكم الفيء).
وفي الحقيقة لا بد أن نفرق بين الفيء والغنيمة.
أما الغنيمة فهي: ما غنمه الجيش بعد قتال، استمر بينهم وبين المشركين قتال حتى كُتب لأهل الإسلام النصر وأخذ الغنائم.
هذه الغنائم تُقسم خمسة أخماس، أربعة أخماس هي أسهم المجاهدين رجالاً وركباناً، أما الراجل الذي يمشي على رجليه له سهم، وأما الراكب فله سهمان.
والخمس الخامس هو الأنفال، ويُقسم على النحو الذي ذكرناه آنفاً.
أما الفيء فهو: ما أفاء الله تعالى على المسلمين من غير قتال، ويُجعل للإمام، فخمس الأنفال للإمام يجعله حيث شاء، وكذلك الفيء كله للإمام يفرقه حيث يشاء ويمنعه ممن شاء؛ لأن هذا فيء لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، إما أن تُفتح بصلح أو معاهدة أو اتفاق أو غير ذلك، لكن إذا كانت البلد تُفتح عنوة -أي: بالقتال- فيكون أمرها في الغنيمة.
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- ومحمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذكر أحاديث منها هذا الحديث وهو: (أيما قرية دخلتموها وأقمتم فيها -أي: فتحت لكم صلحاً- فإنما طعامكم وشرابكم وأسهمكم فيه.
وأيما قرية عصت الله ورسوله -أي: أبت فقوتلت- فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)].
أي: باقي هذه الغنائم لكم بعد ذلك، وكأنه يفرق بين قرية فُتحت سلماً وصلحاً وبين قرية فتحت عنوة، أما القرية التي فتحت صلحاً وسلماً بغير قتال فحكم الداخل منها حكم الفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:7] ومن بعده الأئمة والولاة والسلاطين، إذا فُتحت لهم قرية صلحاً أو سلماً فهي للإمام يفرقها حيث شاء، كما لو كان يفعل ذلك في باب الأنفال، وأما إذا فُتحت عنوة فإن لله ولرسوله من هذه الغنائم الخمس يفرقها الإمام أنفالاً ينفل به من شاء، ويمنعه ممن شاء، ويستحب أن يُعطي كل قتيل سلبه من الأنفال، أما الأربعة أخماس الباقية فإنها للجند الذين قاتلوا.
[وحدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه واللفظ لـ ابن أبي شيبة - قال إسحاق: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا].
ولا يزال العلماء يفرقون بين اللفظين على اعتبار أن (حدثنا) لا تستخدم إلا في السماع الصريح، أما (أخبرنا) فتستخدم في السماع وفي الإجازة.
[قال الآخرون: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار المكي عن الزهري عن مالك بن أوس] وهو مالك بن أوس بن الحدثان وبعضهم أسقط الزهري وأخطأ في ذلك.
[قال مالك بن أوس: عن عمر قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله) وبنو النضير أنتم تعلمون أنهم كانوا يسكنون عوالي المدينة، وبنو النضير هم الذين أرادوا أن يقتلوا النبي عليه الصلاة والسلام بحجر من على السطح.
قال: [(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب)].
الإيجاف: الإسراع.
أي: أنه لم يشتد المسلمون لقتال بني النضير، وإنما فتحها الله تعالى سلماً.
قال: [(فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة)] لم يقل: كان خمسها.
وإنما قال: فكانت؛ وذلك لأنها أتت إلى المسلمين عن طريق الفيء وليس عن طريق الغنيمة.
قال: [(فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُنفق على أهله نفقة سنة)] أي: يحجز لنسائه ومواليه ما يكفيهم لمدة عام، وهذا جائز خاصة في وقت ليس فيه استغلال ولا قحط ولا جدب وإلا فلا يحل ذلك في أوقات الشدة، كمن يذهب إلى السوق فيشتري طعاماً يكفي لمدة سنة أو سنتين أو أقل من ذلك أو أكثر، وهو يعلم أن المسلمين يمرون بجدب وقحط وجوع، فلا يحل له ذلك، بل ينبغي أن يموت مع من يموت وأن يعيش مع من عاشوا.
نعم.
يشاركهم آلامهم وأحزانهم، أما أن يحرص على نجاته وإن كان في ذلك هلاك الآخرين فلا، ليس هذا من أخلاق الإسلام.
ولذلك ضرب المثل الرائع في ذلك عمر بن الخطاب ناهيك عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل شيء، ولو أنك فتشت في سيرته وحياته لوجدت أنموذجاً حياً نقياً طيباً مباركاً له في كل مجالات الحياة، أما عمر فهو الذي حرم نفسه من أن يأكل حتى يشبع أطفال المسلمين، وأن ينام حتى يشبع أطفال المسلمين، وما كان نومه إلا خفقات فإذا حُدث في ذلك قال: إن