أولاً: تقدم في أثناء كلام الأئمة الذين نقلت كلامهم أن حديث: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)، لا يتعارض مع الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي لضعفه، ولا مكان للجمع بينها، ولو صح يكون معناه: لا مهدي كاملاً معصوماً إلا عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وذلك لا ينفي أن يكون غيره مهدياً غير معصوم كـ المهدي الذي دلت عليه الأحاديث.
ثانياً: أن ما دلت عليه أحاديث المهدي من قيام المهدي بنصرة الدين وامتلاء الأرض في زمانه من العدل لا ينافيه وجود الدجال وأتباعه في زمانه ومعاداتهم للمسلمين، وكذا الأدلة الدالة على بقاء الأشرار مع الأخيار حتى تخرج الريح اللينة التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ولا يبقى بعد ذلك إلا شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة؛ لأن المراد مما جاء في أحاديث المهدي كثرة الخير، وقوة أهل الإسلام، وحصول الغلبة لهم وقهرهم لغيرهم، وهذا لا ينفي وجود أشرار مأمورين في زمانه، كما أننا نعتقد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاءه الراشدين رضي الله عنهم قد ملئوا الأرض عدلاً ومع ذلك كان في الأرض في زمانهم من أعدائهم الكثير {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
ثالثاً: أن ما دلت عليه أحاديث المهدي من امتلاء الأرض ظلماً وجوراً قبل خروجه لا يدل على خلو الأرض من أهل الخير قبل زمانه، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر في أحاديث صحيحة بأنه: (لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله)، ومنها الحديث الذي رواه مسلم عن جابر: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله لهذه الأمة)، وهذه الأحاديث وأحاديث المهدي تدل على أن الحق مستمر لا ينقطع، لكنه في بعض الأزمان يكون لأهله الغلبة ويحصل له الانتشار، كما في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين، وكما في زمن المهدي وعيسى بن مريم، وفي بعض الأزمان يتضاءل هذا الانتشار ويضعف أهله، أما أن الحق يتلاشى ويضمحل فهذا ما لم يكن فيما مضى منذ زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يكون في المستقبل حتى خروج الريح التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.
فما من زمن في الماضي إلا وقد هيأ الله لهذا الدين من يقوم به، وفي هذا الزمن الذي تكالب أعداء الإسلام عليه، وغزي بأبنائه المنتسبين إليه أعظم من عزوه بأعدائه لم تخل الأرض من إقامة شعائر الدين الإسلامي، ومن ذلك ما امتن الله به على حكومة البلاد المقدسة من التوفيق لتحكيم الشريعة، وتعميم المحاكم الشرعية في مدن المملكة وقراها يتحاكم الناس فيها إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على وجه لا نظير له في سائر أنحاء الأرض فيما نعلم، فيرجم الزاني المحصن، ويجلد البكر، ويحد شارب الخمر، وتقطع يد السارق، ويقتل القاتل، وغير ذلك، وما حصل في هذه البلاد من الأمن الاستقرار ورغد العيش إنما هو من الثواب المعجل على القيام بالدين زادها الله من كل خير، وحماها من كل شر، ووفق المسلمين جميعاً في سائر أنحاء الأرض لما فيه عزهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم.