قال رحمه الله: [ويعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة، واجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، فلا تقبل شهادة فاسق].
كل هذا قد تقدم.
وقوله: (لا يأتي كبيرة) الصحيح هو مذهب جماهير السلف والخلف أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فدلت هاتان الآيتان الكريمتان على أن الذنوب كبائر وصغائر، ودل عليها قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فلما قال: (الكفر) دل هذا على أن الخروج عن طاعة الله على ثلاثة أقسام: الأول: الكفر، وهو الخروج من الملة والعياذ بالله! الثاني: الصغائر، وهو اللمم والعصيان.
الثالث: ما بينهما وهو الفسوق.
ولذلك قال: (كره إليكم الكفر والفسوق)، وهو ارتكاب الكبائر الذي لا يخرج من الملة.
وأصل الفسوق من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، قالوا: سمي الفاسق فاسقاً؛ لأنه خرج عن طاعة الله عز وجل.
وقد اختلفت عبارات العلماء في ضبط الكبيرة إلى قرابة عشرين قولاً، وأصح الأقوال وأجمعها قول ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره الإمام أحمد، والإمام ابن حزم وغيرهما من الأئمة: أن الكبيرة كل ما سماه الله ورسوله كبيرة، أو ورد عليه الوعيد في الدنيا أو الآخرة، بنفي إيمان أو غضب ونحو ذلك، أو ترتبت عليه عقوبة، هذا كله من الكبائر، وهذا من أجمع ما قيل في ضابط الكبيرة.
وهناك من قال: هي ما كان فيها عقوبة، وهذا ضعيف؛ لأنه يخرج ما ورد فيه الوعيد وليست فيه عقوبة، ومنهم من يقول: عقوبة مطلقة، ومنهم من يقول: عقوبة محددة، والخمر فيه عقوبة غير محددة على الخلاف الذي ذكرناه، فالشاهد: أن الضابط الذي ذكرناه من أجمع الضوابط.
قال رحمه الله: [الثاني: استعمال المروءة، وهو فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه] المروءة: هي التي تحمل على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات والأقوال والأعمال، جعلنا الله وإياكم من أهلها، وقد قل وجودها في هذه الأزمنة، ويقل وجودها كلما تباعدت أزمنة الناس عن أزمنة النبوة، وهي حياة الإنسان، ولذلك ففيها الحياء وفيها الخجل، قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فمن أجمع خصال المروءة: الحياء، ولذلك إذا ذهب الحياء ذهب الخير عن الإنسان، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)، والمروءة تقل بفساد الزمان كما ذكر الأئمة: مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة؟ فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتوا! فذهب أهل المكرمات وأهل الحياء والخجل، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) دل على أن من لا مروءة عنده يفعل ما شاء، ومن هنا اختلفت تعليلات العلماء لرفض شهادة من لا مروءة له.
ومن خوارم المروءة: أن يأتي السوق ويكشف رأسه، أو يجلس في وسط السوق ويأكل، أو يأخذ الأكل معه في يده وداخل سيارته ولا يبالي، إلا إذا كان في أحوال مخصوصة، مثل أن يكون مسافراً ونحو ذلك، أو جرى العرف بكشف الرأس في السوق أو في مجامع الناس، فهذا ليس فيه بأس.
أو يصيح ويرفع صوته في المساجد بين الناس في مجامع الناس، أو يجتمع كبار الناس وكبار القبيلة وكبار الجماعة من أهل الحل والعقد فلا يراعي أدباً، أو يمد رجليه وهو جالس أمام أهل العلم وأهل الفضل، ويفعل ما يشاء، ويضحك بحضور أناس ينبغي الحشمة معهم، كل هذا مما يخرم المروءة.
قال بعض العلماء: إن تعاطي هذه الأمور يدل على خفة العقل؛ لأن العقل يعقل الإنسان، فالذي لا يبالي ويفعل ما يشاء، كأن يرفع صوته في مجامع أو في خطابه للناس، ولا يراعي منازل الناس، فهذا دليل على أن عنده نقصاً في عقله، ومن نقص عقله لم تقبل شهادته؛ لأن هذا يؤثر في الوثوق بقوله وبخبره، وقالوا: إذا لم يتورع في الظاهر فإنه لا يتورع في الباطن، وهذه دلالة الظاهر على الباطن، هذا الوجه الأول، وحينئذٍ يكون الخلل من عدم الصيانة.
وهناك وجه ثان: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس وهو من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي لا يستحيي لا يتورع عن شيء، وإذا لم يتورع عن شيء فلا يتورع عن الكذب في شهادته، ولن يتورع أن يقول: أنا متأكد مائة بالمائة، وهو ليس بمتأكد، ويبالغ ويعظم الأمور، ويبالغ في مدح نفسه وفي الوثوق بقوله، فقالوا: مثل هذا لا ترضى شهادته، فهذان وجهان، والحقيقة أنه لا مانع من اعتبار كلا الوجهين موجبين لرد شهادة من لا مروءة له.
وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعراف، فهذا كله يعتبر من خوارم المروءة.
ولا يعتبر من خوارم المروءة العمل بالسنة وإظهارها، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يأتي شخص ويفعل شيئاً من السنة أمام جماعته، أو أمام كبار السن، فلا ينبغي لأحد أن يقول له: أنت لا تستحيي، بل فعله هذا هو عين الحياء؛ لأن السنة لا تأتي إلا بخير، وجزاه الله خيراً أن أحيا سنة أميتت، فهذا لا يعتبر مذموماً، وليس عليه منقصة ولا ملامة في هذا.