قال رحمه الله تعالى: [بدخول وقتها إما باجتهادٍ، أو خبر ثقةٍ متيقن] اعتبار الإنسان بدخول الوقت وقد يكون باجتهاد؛ لأن غالب الظن ينبني على الاجتهاد، وغالب الظن يكون مبنياً على الإخبار؛ لأنه ربما كذب المخبر، لكنه رحمه الله عبر بغالب الظن، وإلا فيمكن في بعض الأحوال أن تستيقن، كما لو رأيت الشمس غابت، فحينئذٍ أنت على يقين، فاختار المصنف رحمه الله حالة غلبة الظن لكي نعلم أن اليقين من باب أولى وأحرى؛ لأنه إذا حكم لك أنه في غلبة الظن تصلي فتعلم بداهةً أنه لا حاجة أن يقول لك: أو استيقنت؛ لأنه إذا غلب على ظنه فمن باب أولى إذا استيقن.
فغالب الظن إما أن يكون باجتهاد أو بخبر ثقةٍ متيقِّنٍ، أو بالعلامات أو الأمارات أو الدلائل التي يتحرى الإنسان بها زوال الشمس، ويتحرى بها صيرورة ظل كل شيءٍ مثله أو مثليه، ومغيب الشمس، وكذلك أيضاً مغيب الشفق وانتصاف الليل وطلوع الفجر.
فإنسانٌ يعلم دلائل الفجر الصادق من الفجر الكاذب ويستطيع أن يتحرى ويجتهد، فيعرف أن هذا الوقت هو وقت الفجر الصادق، نقول له: اجتهد، فإن غلب على ظنك أن الفجر قد طلع فصلِّ وصلاتك معتبرة.
وحينئذٍ لا يخلو من أحوال: فإما أن يجتهد ويتبيَّن له صدق اجتهاده، فصلاته معتبرةٌ إجماعاً.
وإما أن يجتهد ويتبيَّن له خطؤ اجتهاده، كأن يظن أن الفجر قد طلع، ثم تبيَّن أن الفجر لم يطلع، فحينئذٍ لا عبرة بالظن فالقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، أي: لا عبرة بالظن الذي بان واتضح خطؤه، وبناءً على ذلك يطالب بإعادة الصلاة؛ لأن ظنه في غير موضعه، وقد توصَّل باليقين إلى خطئه فيلزمه أن يعيد.
وإما ألا يتبين له هل صدق اجتهاده فأصاب الوقت، أو أن اجتهاده على خطأ، فحينئذٍ نقول: تعبَّدك الله بغلبة الظن، ولا عبرة بما وراء ذلك.
والدليل على أن غالب الظن في مثل هذا يجزئ ويكفي تعبُّد الشريعة بغلبة الظن، بل إنها تحكم بسفك الدماء في حكم القاضي بالقتل بناءً على شهادة شاهدين، فإن شهد شاهدان أن فلاناً قتل فلاناً، فبالإجماع أنه يُقتص من القاتل؛ لأنه قتله عمداً وعدواناً، مع أنه يحتمل أن الشاهدين زورا أو أخطأا، ومع هذا فالغالب أنهما لم يخطئا، والغالب أنهما صادقان؛ لأننا لا نقبل شهادة إلا من الثقة العدل، فلما كان الشاهدان على ثقةٍ وعدالة حكمت الشريعة بغلبة الظن.
ويُحكم به في الفروج، فتقول: فلانة امرأة فلان، ويحكم القاضي بذلك بناءً على شاهدين عدلين.
وهكذا بالنسبة للأحكام الشرعية، حينما تأتي للمجتهد وتسأله عن مسألة اجتهادية فيُفتيك، فإنه يفتيك على غالب ظنه، وليس على يقينٍ وقطع إلا فيما دلَّت عليه النصوص القطعية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر).
فاجتهاد القاضي على غلبة ظن، كما قال العلماء، وبناءً على هذا فهمنا أن الشريعة تنيط الأحكام على غلبة الظن، فإذا اجتهد الإنسان وغلب على ظنه أن الوقت قد دخل، ثم لم يتبين له خطأُ الاجتهاد، فاجتهاده معتبر، وعبادته مجزِئةٌ صحيحة.
وقوله: [أو خبر ثقةٍ متيقِّن] أي: من غلبة الظن أن يخبرك ثقة، فخرج خبر الفاسق، فإن الفاسق أمرنا الله بالتبيُّن من خبره، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، وفي قراءة: (فتثبتوا)، ولذلك أمر الله عز وجل في مثل هذا الخبر ألا نحكم به، ولكن نتبيَّن، فدلّ على أن خبره لا يُعتد به، إذ لو كان خبر الفاسق مُعتداً به لوجب الحكم به مباشرة، لكن كون الله عز وجل يأمرنا بالتثبت والأخذ من غيره والتبيُّن من صحته دَلّ على أن مثله لا يُعوَّل عليه، ولذلك قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] ثم قال بعد ذلك: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282].
فلو أخبرك من لا يُرضَى دينه، ولا يُرضَى خلقه، فليس خبره بمعتدٍ به.
قال العلماء: لأن الفاسق كما أنه اعتدى حدود الله بفسقه، فلا يُؤمَن أن يعتدي حدود الله فيكذب عليك ويقول: دخل الوقت، وهذا موجود، فإن بعض الفُسَّاق -والعياذ بالله- عنده استهتار بالدين، فلربما أراد أن يخدع المطيع عن ربه، فقال: دخل الوقت، ثم تركه يصلي، وكل ذلك إما قصداً للسخرية والاستهزاء، وإما تهكماً واستهتاراً واستخفافاً -والعياذ بالله- بحدود الله.
فمثله لا يوثق بخبره، فلا بد أن يكون ثقة، وبعد ذلك أن يكون متيقناً.
والثقة على حالتين: إما أن يكون مجتهداً، أو يكون متيقناً، فإن كان الثقة متيقناً فلا إشكال، فلو قال لك: رأيت الشمس قد غابت بعيني فحينئذٍ تصلي صلاة المغرب بلا إشكال؛ لأن خبر الواحد في الديانات مقبول، وأما لو قال لك اجتهاداً: يغلب على ظنِّي أن الفجر قد طلع، فإن من أماراته كذا وكذا، وذكر لك الأمارات؛ أو: يغلب على ظني أن النهار قد انتصف، وزالت الشمس؛ لأن الأمارة كذا وكذا.
فحينئذٍ لا ينفك المُخبَر عن حالتين: فإما أن تكون مجتهداً مثله، فهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بمفهوم الوصف، فإن لم يتبيَّن لك الصبح، وجاءك وقال لك: قد تبين الصبح.
فهل تترك الاجتهاد وتقلد؟ أو تبقى على الأصل ما دام عندك الآلة والملكة؟ قال بعض العلماء: المجتهد لا يقلِّد، ويجب عليه أن يبقى حتى يتأكد أن الصبح قد طلع.
وقال بعض العلماء: المجتهد إذا تعذَّرت عليه الآلة في نفسه وجب عليه أن يعمل بقول غيره؛ لأنه ترفَّع عن مستوى من يقلد بمكان الاجتهاد، فإذا أصبح الاجتهاد فيه متعذراً أو ممتنعاً انتقل إلى حال الأمي وحال المقلِّد، فنلزمه بالعمل بخبر هذا المجتهد.
والقول الأول من القوة بمكان، وهو أن المجتهد إذا تعذرت عنده الآلة، ولم يستطع أن يتحرى، فإنه يَقْوَى أن يميل إلى قول غيره، ولكن الاحتياط والأفضل أن يُعمَل بما درج عليه المصنف رحمه الله.
والعامِّي الذي لا يعرف الأوقات، ولا يعرف الدلائل لو جاءه إنسانٌ مجتهد يعرف الأوقات بدلائلها وهو ثقة، فلا يَدْخُل فيما سبق، فالعامي يلزمه أن يقلد من عنده علمٌ وبصيرة قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا أخبره ثقة أنه باجتهاده قد تبيَّن له أن الصبح قد طلع وجب عليه أن يعمل بقوله؛ لأنه لا آلة عنده، وهو تبعٌ لغيره، فيستوي حينئذٍ أن يكون مخبِرُه على غالب ظنه، أو على يقين.
فالحاصل أن الشخص المجتهد لا يَحكُم بدخول الوقت إلا باجتهادٍ منه أو مخبر متيقِّن، أما لو أخبره بغالب الظن ففيه خلاف، وقلنا: الأحوط أن لا يعمل، وهذا على ما درج عليه المصنف.
وأما إذا كان الإنسان عامياً أو غير مجتهد فحينئذٍ يعمل بقول من تيقَّن، وبقول من اجتهد ولو كان بغالب ظنه.