السراية وأحكامها

قال رحمه الله: [وإذا قطع أصبعاً عمداً فعفا عنها، ثم سرت إلى الكف أو النفس، وكان العفو على غير شيء فهدر].

هذه المسألة صورتها: لو وقعت مخاصمة بين اثنين، فقام أحدهما وقطع أصبع الآخر عمداً وعدواناً، فثبت القصاص أن تقطع أصبعه بأصبعه، فعفا المجني عليه، فلما عفا سرت الجناية -والعياذ بالله تعالى- حتى أتت على يده، ثم سرت على جسمه حتى مات، فالموت وقع بسبب سراية الجروح؛ لأن الجروح تسري في البدن، إما بسبب التلوث، أو بسبب قوة الجناية، أو بسبب الجراثيم التي تدخل، فإذا سرت الجناية فقد تسري على عضو لكون الجناية في جزء العضو، مثل الأصبع والأصبعين، ثم تسري إلى العضو كاملاً، وقد تسري إلى البدن بكماله، وقد تسري إلى نصف البدن كأن تشل نصفه -والعياذ بالله تعالى-، فهذا يسميه العلماء: السراية، وهي في الأصل جناية في موضع، ثم تتوسع حتى تسري إلى مواضع، وقد تأتي على النفس فتهلك صاحبها.

فلو أنه جنى عليه جناية في الطرف الذي هو الأصبع، أو قطع يده، فلما قيل له: إن شئت أخذت بالقصاص وإن شئت عفوت، قال: قد عفوت، فلما عفا سرت الجناية وأتت على نفسه، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة، فقال بعض العلماء وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى: يجب القصاص، فإذا عفا عن الأصبع وسرت الجناية إلى البدن كله فالعفو عن الجزء ليس عفواً عن الكل، وهو إنما عفا عن جناية قاصرة متعلقة بجزء من البدن، ولم يُسأل عن بدنه كله، وبعبارة أدق: أن الجناية لم تتضح بعد، بمعنى أنه سبق عفوه حقيقة الجناية؛ لأن الجناية وقعت على البدن كله، وهي في الأصل على الأصبع، لكنها سرت إلى البدن كله، فهذا الإتلاف إزهاق للنفس أتى على النفس بكاملها، وقد جاء من فعل الجناية، والجناية عمد، فيثبت القصاص في البدن كله.

وخالفه جمهور العلماء فقالوا: ليس هذا موجباً للقصاص، حتى لو قلنا: إنه يقتص منه فإن الشبهة قائمة، فهذا لم يرد إزهاق روحه كلها، وإنما اعتدى على جزء بدنه، فكيف ينزل منزلة من اعتدى على البدن كله، فهناك فرق بين الاثنين، ثم إن القتل لم يحصل بالقطع، أي: أن القطع نفسه للعضو ليس مما يوجب الإزهاق في الأصل، ومن هنا رد الجمهور هذا القول، وقولهم أقوى.

فإذا قطع الأصبع وقال المعتدى عليه: أريد الدية، وأعطي دية أصبعه، ثم سرت إلى بدنه كله فقال أولياؤه: نريد الدية كاملة، فإنهم يعطون الدية كاملة، فإذا لم يعف وأخذ الدية عن الأصبع، وسرت الجناية إلى البدن كله، وجب ضمان الدية كاملة إذا طالبوا بها ولا إشكال في هذا، لكن الإشكال إذا طالبوا بالقصاص، فـ مالك رحمه الله تعالى يقول: يمكنون من القصاص، والجمهور يقولون: لا يمكنون، لكن لو أنه أخذ الدية عن أصبعه ثم سرت الجناية إلى بدنه كله وطالب أولياؤه بالدية، كان من حقهم أن يأخذوا الدية؛ لأنه ليس هناك عفو والولي لم يعفُ.

ومما وقع فيه الخلاف بين العلماء: أنه لما قطعت أصبعه فعفا عن الأصبع، وإذا بالجناية تسري فتأتي على النفس، ف

Q هل يلزم بالدية كاملة؟ أو يلزم بالدية إلا ما عفا عنه وهو الأصبع؟ فمذهب طائفة من العلماء وفي مذهب الحنابلة أيضاً أنه تؤخذ الدية كاملة ما عدا القدر الذي عفا عنه وهو الأصبع؛ لأنه قد عفا عن أصبعه، وحينئذٍ يؤخذ من الجاني بقية الدية وهي تسعة أعشار الدية، وعلى هذا يقولون: إن الجناية في سرايتها مضمونة.

وهذا أصل عند العلماء، على تفصيل سنذكره -إن شاء الله تعالى- في باب الديات.

ولعل الأشبه أن الذي عفا عنه -وهو الأصبع- يسقط حقه فيه، ويبقى الضمان فيما عداه، والقائلون بوجوب الدية كاملة يقولون: يجب ضمان الدية كاملة؛ لأن الجناية على الأصبع جناية، والجناية على البدن جناية ثانية، وحينئذٍ يكون كأنه قتل مباشرة؛ لأنه قتل بسببية هنا؛ فتسبب الجرح في إتلاف البدن كله، فقالوا: ما عفا عنه فهو عفو، وكتب الله تعالى له أجره، ولكن لأوليائه أن يأخذوا الدية كاملة.

على أن السراية إذا كانت بالسلاح فهي أقوى، فإذا كان السلاح آلة كالَّةً، مثل أن يقطعه بسكين ملوثة، أو يقطعه بسكين مسمومة، فالقطع بالسكين المسموم قوي جداً في مذهب القصاص؛ لأن السكين المسمومة معروف أنها مما يفضي إلى إزهاق الروح، فمذهب مالك رحمه الله تعالى فيها قوي، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمه الله تعالى يستثني هذه الحالة، وهي: أن يقع القطع بآلة أو بطريقة تفضي إلى السريان، ويكون السريان غالباً، وحينئذٍ تكون سببية على العضو ولكن المراد بها كل البدن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015