فأما الطلاق السني: فلابد فيه من أمور لكي نحكم بكون المرأة محلاً لطلاق السنة، وهذه الأمور تعتبر بمثابة الشروط المستنبطة من دليل الكتاب والسنة: الشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها.
والشرط الثاني: أن تكون من ذوات الحيض، فليست بصغيرة لم تحض بعد، ولا كبيرة انقطع حيضها لليأس.
وثالثاً: أن يقع الطلاق حال طهرها.
ورابعاً: ألا يكون قد جامعها في ذلك الطهر.
وخامساً: ألا تكون حاملاً.
سادساً: أن تكون الطلقة واحدة.
فهذه ستة شروط لا بد من وجودها لكي نحكم بكون الطلاق طلاق سنة: أن تكون المرأة مدخولاً بها، وأن تكون من ذوات الحيض: أي بلغت سن المحيض ولم ينقطع حيضها ليأس أو مرضٍ أو نحو ذلك، وثالثاً: أن تكون طاهرة، ورابعاً: ألا يجامعها في ذلك الطهر الذي يريد أن يطلقها فيه، وخامساً: ألا تكون حاملاً، بأن تكون حائلاً غير حامل، وسادساً: أن يطلق طلقةً واحدةً ولا يزيد.
نبدأ بالشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها، بمعنى أن يكون الزوج قد دخل على الزوجة؛ فإن كانت الزوجة لم يدخل بها زوجها وطلقها قبل أن يدخل فطلاقه ليس بمحل لقضية السنة والبدعة، ولذلك يجوز تطليق المرأة قبل الدخول ولو كانت حائضاً، والدليل على اشتراط كونها مدخولاً بها أن الله سبحانه وتعالى قال: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، والمرأة غير المدخول بها لا عدة لها، ومعنى الآية: أي: طلقوهن لقبل العدة كما فسره بذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- وكما هو ظاهر السنة في حديث ابن عمر، فأصبح طلاق السنة الملزم به والمأمور به: ينبغي أن يكون في امرأةٍ مدخولٍ بها.
من العلل المستفادة في أن الشريعة منعت من تطليق المرأة وهي حائض: أن هذا يطول عليها العدة، ففيه ضرر على المرأة، وكذلك إذا كانت مدخولاً بها في طُهر جامعها فيه، ربما طلقها فبانت حاملاً منه فيندم ويتألم أنه طلقها وهي أمٌ لولده؛ لكن إذا كانت غير مدخولٍ بها فليس هناك تطويل للعدة، وليس هناك خوف من كونها حاملاً، فهو يُقدم على الطلاق في بينةٍ من أمره كما لو طلقها وهي طاهر ولم يجامعها.
فإذاً: المرأة غير المدخول بها يجوز تطليقها ولو كانت حائضاً، فلا يقال: إن المرأة التي لم يدخل بها يجب على من طلقها أن يلتزم السنة في تطليقها؛ فإن أمرها واسع.
إذاً الشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها، وهذا محل إجماعٍ بين العلماء، أن المرأة التي لم يدخل بها ليست بمحلٍ لطلاق السنة ولا يوصف تطليقها بالبدعة، وهي من النوع الثالث الذي لا سنة ولا بدعة.
الشرط الثاني: أن تكون المرأة من ذوات الحيض، فخرج بهذا الشرط الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي انقطع حيضها ليأسٍ، أو المريضة التي انقطع حيضها بسبب المرض، فالمرأة التي لا تحيض لصغر لا يوصف طلاقها بسنةٍ ولا بدعة مثل غير المدخول بها؛ ولذلك تكون عدتها بالأشهر؛ لأنها لم تحض بعد، والتي يئست كالتي لم تحض فتكون عدتها ثلاثة أشهر، إذا ثبت هذا فإنه لا يوصف الطلاق بكونه سُنياً إلا إذا كان في المرأة من ذوات الحيض، وكما ذكرنا أن المرأة الحائض تطول عدتها إن طُلّقت، وكذلك إذا طهُرت من حيضها وجامعها ربما حملت، فإن كانت قد انقطع حيضُها أو كانت صغيرةً لم تحض؛ فإنه يطلق وهو على بينةٍ من أمره ولا ضرر عليه ولا على الزوجة، فهذا هو الشرط الثاني: أن تكون من ذوات الحيض، فخرج بهذا الشرط: الصغيرة التي لا تحيض، والآيسة التي انقطع حيضها.
الشرط الثالث: أن يطلقها وهي طاهرة، فلا يوصف الطلاق بكونه طلاق سنةٍ، إلا إذا وقع حال الطهر، فلو كانت المرأة حائضاً فبالإجماع يعتبر طلاقها طلاق بدعةٍ؛ وذلك لصريح حديث ابن عمر، وظاهر التنزيل في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]: أي مستقبلات أو في قبل العدة، والمرأة الحائض لا يستقيم فيها ذلك، فإذاً الشرط الثالث: أن تكون المرأة طاهرة غير حائض.
الشرط الرابع: ألا يجامعها في ذلك الطهر، فلو أنها طهرت ثم جامعها في ذلك الطُهر فإنه يكون طلاقه طلاق بدعةٍ إن وقع بعد ذلك الجماع، فإذا أردنا أن نحكم بكونه طلاق سنةٍ فإنه ينتظر حتى تحيض بعد جماعها، ثم إذا حاضت بعد جماعها وطهُرت من حيضها إن شاء طلق وإن شاء أمسك، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن سالم بن عبد الله بن عمر في قصة تطليقه لامرأته وهي حائض، قال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم يمهلها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمسها)، يعني: قبل أن يجامعها، فدل على أن الطهر الذي جامعها فيه لا يطلقها فيه حتى تطهر منه؛ لأنه ربما جامع فيه فبان حملها فيندم على تطليقها.
فإذاً: هنا يخشى أن تحمل المرأة، وغالباً أن الرجل إذا علم أن المرأة حاملٌ منه فإنه يندم على طلاقها ويكون في ذلك ضررٌ عليه وضرر على ولده، هذا بالنسبة للشرط الرابع.
الشرط الخامس: ألا تكون حاملاً: فإذا كانت حاملاً؛ فإنه لا يوصف طلاقها ببدعة ولا سنة، فإذا طلقها وهي حامل فإنه حينئذٍ قد استبان الأمر ويقدم على الطلاق وهو على بينة من أمره وهو مختار لفراقها، والدليل على أن طلاق السنة يكون لغير الحامل قوله عليه الصلاة والسلام: (وليطلقها حائلاً أو حاملاً).
قال: (حائلاً) أي: في طهر لم يجامعها فيه على التفصيل الذي ذكرناه (أو حاملاً) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن الحمل لا يمنع من الطلاق، وأن من حق الرجل أن يطلق زوجته بعد أن علم بحملها؛ فإن طلاقه معتبرٌ وصحيح.
الشرط السادس والأخير: أن يطلق طلقةً واحدة ولا يزيد على هذه الطلقة، وهذه الطلقة هي السنة، ومذهب جمهور العلماء على أن من زاد على طلقةً واحدة فطلق طلقتين فقال لامرأته: أنت طالق طلقتين أو طالق ثلاثاً، أو أنت طالقٌ بالثلاث؛ فإنها بدعة، وقد ارتكب المعصية، فمن يطلق أكثر من طلقة فقد عصى الله ورسوله.
ولذلك ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما وكذلك عن ابن عباس لما جاءه الرجل وقال: (إني طلقت امرأتي مائةً فقال له: ثلاث حرمت بهن عليك، وسبعٌ وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزوا)، وفي روايةٍ: (لعبا)؛ لأن مثل هذا خلاف الشرع، فالزيادة على الطلقة بدعة ومعصية، وصاحبها آثمٌ شرعاً، ومذهب طائفةٌ من العلماء: أن من طلق امرأته أكثر من طلقة، أو طلق امرأته طلاق البدعة فطلقها وهي حائض عالماً بحيضها وعلم به القاضي؛ فإن الواجب على القاضي أن يعزره؛ لأنه عصى الله وكذلك اعتدى حدوده، فإذا علم بذلك بإقرارٍ منه وثبت عنده أنه طلق للبدعة فإنه يعزره؛ لمخالفته للسنة.
إذا ثبت هذا فإنه يطلق طلقةً واحدة، ولذلك ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل: أنه طلق امرأته ثلاث تطليقات وهي حائض، فقال له: (أما عبد الله بن عمر فقد طلق طلقةً واحدة وأما أنت فقد عصيت ربك وبانت منك امرأتك).
أما أنت فقد عصيت ربك بالبدعة، وبانت منك امرأتك؛ لأن قضاء الصحابة رضوان الله عليهم وجماهيرهم، على أن الثلاث ثلاث.
وبناءً على ذلك: فإن الزائد على الطلقة يوصف بالبدعة، ويعتبر طلاق إثمٍ وحرج، ولا يجوز للمسلم أن يتلفظ به، خلافاً للشافعية -رحمهم الله- حيث قالوا: إن طلاق الثلاث سنة.
واستدلوا بحديث عويمر العجلاني وهو حديث صحيح: (فإنه لما لاعن امرأته فحلف أيمان اللعان وحلفت امرأته أيمان اللعان فقال: يا رسول الله! إن كذبت عليها فهي طالقٌ بالثلاث).
فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: أنها لا تحل له، قالوا: فطلق ثلاثاً بحضور النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وهذا ضعيف، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أن السنة طلقةٌ واحدة وأن الثلاث بدعة، وهل تقع أو لا تقع؟ سيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وذكر أقوال العلماء فيها.
الشاهد: أن طلاق السنة يستجمع هذه الشروط، ومن هنا تستطيع أن تحصر الشروط في ضابطين فتقول: يشترط لطلاق السنة الموضع ويشترط العدد، فلابد من أمرين، أمر يتعلق بالموضع وأمر يتعلق بالعدد، فلا يوصف طلاق بكونه طلاق سنةٍ إلا إذا استجمع هذه.
فأما الموضع: فأن تكون المرأة مدخولاً بها طاهراً لم يجامعها في ذلك الطهر، وألا تكون المرأة حاملاً، والشرط الذي يتعلق بالعدد أن يطلقها طلقةً واحدة، هذا بالنسبة لما ينبغي تحققه للحكم بكون الطلاق طلاق سنةٍ.
قال رحمه الله: [إذا طلقها مرةً في طُهر لم يجامع فيه].
إذا طلقها مرةً فهذه طلقة واحدة (في طُهرٍ لم يجامع فيه) معنى ذلك أنها من ذوات الأطهار، وليست بصغيرة لا تحيض ولا بكبيرة آيسةٍ، فتعد المرأة في هذه الحالة من ذوات الأشهر.
إذاً: إذا طلق مرةً، أي: طلقةً واحدة، (في طُهرٍ) فخرج الطلاق في الحيض، وقوله: (لم يجامع فيه) خرج ما إذا جامع في نفس الطهر، وقوله: (في طهر) يستلزم أن تكون المرأة من ذوات الحيض، فاستجمع -رحمه الله- الشروط بهذا، وقال: (إذا طلق مرةً) هذا شرط العدد (في طُهرٍ) يجمع شرطين: الشرط الأول: أن تكون المرأة من ذوات الحيض فليست صغيرة ولا كبيرة آيسة؛ وكذلك أن تكون أثناء الطلاق طاهرة، فهنا شرطان: أن تكون من ذوات الحيض؛ لأنه قال: (في طُهر)، ولا تطهر من الحيض إلا الحائض، وأيضاً: استلزم شرطاً ثانياً مع كونها من ذوات الحيض: أن تكون حال طهرها من الحيض، ولم يجامع فيه؛ وهذا الشرط الرابع، فخرج ما لو جامع المرأة.