قال رحمه الله: [وتركها حتى تنقضي عدتها].
هذه في الحقيقة مسألة تتعلق بتجزئة الطلاق ثلاثاً على الأطهار، وتوضيح ذلك: أن بين الجمهور وبين الحنفية -رحمهم الله- خلافاً في هذه المسألة، نحن قلنا: إن المرأة يكون طلاقها للسنة بالشروط التي ذكرها المصنف، فقال رحمه الله: (إذا طلق مرةً في طهر لم يجامع فيه)، فنبه على المدخول بها في قوله: (لم يجامع فيه) أي: أنها محل للجماع، ونبه على بقية الشروط على الصورة التي ذكرنا، إذا ثبت هذا فإن الرجل نصفه بكونه مطلقاً للسنة إذا وقعت منه طلقة واحدة في الطهر، فلو قال لك قائل: هب أن المرأة حاضت، فلما طهرت من حيضِها طلقها طلقةً واحدة، فبعد الطلقة ستعتد، وستحيض الحيضة الثانية ثم تطهر بعد حيضتها الثانية فإذا طهرت أردفها طلقةً ثانية؛ ثم انتظرت إلى طهرها من الحيضة التي تلي الطلقة الثانية، فلما طهرت منها أردفها الطلقة الثالثة، فجزأ الطلاق ثلاثاً، وكل طلقة أوقعها في طهر لم يجامع فيه، فهل يوصف طلاقه بكونه طلاق سنة أو لا يوصف؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فالجمهور: على أنه طلاق بدعة، وأنه ينبغي عليه إذا أراد طلاق السنة أن ينتظر حتى تستتم عدتها أو يراجعها ثم يطلقها في طهرٍ لم يجامعها فيه، أما أن يردف الطلاق مجزأً على الأقراء فإنه ليس بسنة وإنما هو من طلاق البدعة، وخالف في هذا الحنفية -رحمهم الله- فقالوا: إن طلق مجزئاً الطلاق على الأطهار فسنة، فقسموا طلاق السنة عندهم إلى طلاق حسن وأحسن، فعندهم طلاق السنة ينقسم إلى قسمين: طلاقٌ حسن وطلاقٌ أحسن، فالطلاق الأحسن عندهم: أن يطلق طلقةً واحدة ولا يردفها بغيرها في الأطهار على الصفة التي ذكرناها عن الجمهور.
والطلاق الحسن: الذي هو دونه في المرتبة والذي اختلفوا فيه، فقالوا: هو أن يجزئ ثلاث تطليقات على ثلاثة أطهار، ما فائدة الخلاف؟ فائدة الخلاف: لو قال لها: أنت طالقٌ حسن الطلاق، فعند الحنفية: تطلق الطلقة الأولى في طهرها الأول، ثم تطلق الطلقة الثانية في طهرها الثاني؛ ثم تطلق الطلقة الثالثة في طهرها الثالث.
وعند الجمهور: أن الحسن والأحسن شيءٌ واحد، وحينئذٍ يكون بحسب نيته فإن قصد بالأحسن أنه الثلاث، على أنه الأكمل في نظره حتى ينتهي شرها إن كانت تؤذيه؛ فحينئذٍ لا إشكال؛ وإلا فالأصل: أن أحسن الطلاق هو طلاق السنة، فينصب على طلقةٍ واحدة، فالحنفية قسموا الطلاق إلى هذين القسمين، وقالوا: من أردف الطلاق في الأطهار، مضى طلاقه وكان طلاق سنة، لكن عند الجمهور يعتبر من طلاق البدعة.
قوله: (حتى تنقضي عدتُها فهو سنة).
(فهو سنة) وذلك لثبوت الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث ابن عمر في الصحيحين وفيه: (أنه طلق امرأته تماضر رضي الله عنها طلقةً وهي حائض، فرفع ذلك عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن ابنه طلق امرأته وهي حائض، غضب صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: (مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر -أي من هذه الحيضة التي طلقها فيها- ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، ثم تلا عليه الصلاة والسلام: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] الآية.
فأصبح عندنا في هذا دليل على أن السنة أن يقع الطلاق في الطهر على الصفات التي ذكرناها، وأن هذا هو الطلاق السني الذي أصاب صاحبه الوجه المعتبر في الطلاق، ومفهوم ذلك: أنه إذا لم تقع هذه الشروط فإنه لا يوصف بكونه طلاق سنةٍ، فلو طلقها وهي حائض فبالإجماع أنه يعتبر طلاق بدعة، ولو طلقها في طهرٍ جامعها فيه فإنه بالإجماع يعتبر طلاق بدعة، فطلاق البدعة بالإجماع أن يطلق في الحيض أو أن يطلق في طُهرٍ جامع فيه.