مراحل النشوز وطرق علاجه

جعل بعض العلماء للنشوز مرحلتين: الأولى: مرحلة المقدمات للنشوز، ودلائل النشوز التي لا يظهر بها، ولا تُظهر المرأة معها الإعراض عن الزوج علانية، وإنما فيها أمارات ودلائل تدل على أن هناك أمراً تخفيه المرأة، وعندها يتوجس الرجل من المرأة خيفة كما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34].

الثانية: أن يقع النشوز فعلاً، فتعصي المرأة زوجها علانية كأن تقول له: لا تطأ لي فراشاً، أو لا يمكن أن تطأني، ولا تقربني ونحو هذا، فحينئذٍ تنشز تماماً، فأصبحت هناك مرحلتان: مرحلة مقدمة للنشوز، ومرحلة يقع بها النشوز حقيقة، ومرحلة المقدمة للنشوز تكون أيضاً على حالتين: الحالة الأولى: أن تبدو العلامات دون إصرار، والحالة الثانية: أن تبدو العلامات مع شيء من الإصرار، مع كونها مطيعة إذا دعاها إلى فراشه.

فهاتان الحالتان في المقدمات، وبناءً على ذلك قسم بعض الفقهاء -كما درج عليه الشافعية ومن وافقهم- المسألة إلى ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: الأمارة والعلامة على النشوز.

والمرتبة الثانية: العلامة والأمارة مع الإصرار، دون امتناع عن الفراش.

والمرحلة الثالثة: النشوز الكلي.

أما المرتبة الأولى: فظهور الأمارات، فتكون أول أمرها مطيعة له إذا أمرها، وسامعة له إذا دعاها، ومجيبة بكل ما يطلبه، ثم تنقلب على العكس، فإذا أمرها لم تأتمر، وإذا دعاها أتت متأخرة، وإذا طلب شيئاً منها فإذا بها تلوي وجهها، وتحدث نوعاً من الظواهر والأمارات على ظاهرها، مما يدل على أنها متبرمة ساخطة لهذا، فهذه هي مرحلة بداية النشوز التي قال الله تعالى عنها: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]، فهذه مرحلة الخوف.

أما المرحلة الثانية فهي إصرارها على المعصية، فيعظها ويذكرها بالله تعالى، ويقول لها: اتقي الله فإنه لا يجوز لكِ هذا، وإني أرى منكِ كذا وكذا، فإن كان الذي رآه من العلامة مرة أو مرتين فقد تكون مريضة، أو قد يكون لها عذر، كأن ترى منه شيئاً لا تستطيع أن تجابهه به، فإذا جاء يعظها ويذكرها بالله فانكسر الذي في قلبها فاطمأنت، ورجعت إلى حالها الأول فلا إشكال، وحينئذٍ يتلافى هذا؛ لأن الوعظ كان تأديباً لها، فإن أصرت فذلك يدل على أن هناك شيئاً تخفيه، فإذا طلب منها أن تناوله الشيء جاءت به إما متوانية متكاسلة وعادتها السرعة، أو جاءت به فوضعته بقوة وعادتها أن تضعه بين يديه، وكررت ذلك المرة تلو المرة وهو يذكرها وهي تصر فتصبح في مرحلة الإصرار.

وأما المرحلة الثالثة فهي عصيانها الفعلي، كأن يقول لها: لا تفعلي هذا، أو: هذا لا يجوز، فتقول له: ليس لك من شأن، وتعترض عليه.

ففي الحالة الثانية تكون مجيبة له إلى الفراش، فإذا جابهته وجابهها، وانكشف الأمر بينهما وامتنعت عن فراشه، فقد انتقلت للمرحلة الثالثة، وهي غاية النشوز.

هذا تقسيم لطائفة من أهل العلم، وفائدة هذا التقسيم عندهم أن الأحكام تترتب على حسب هذه المراحل الثلاث.

فالله تعالى يقول: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فإن بدت المرحلة الأولى، أو العلامة الأولى شرع الوعظ، وإن بدت العلامة الثانية وهي الإصرار بعد الوعظ هجرها في المضجع، وإن بدت العلامة الثالثة، فأصرت على إعراضها، وعلى أذيتها، فإن دعاها إلى فراشه فلم تأتِ ولم تجب، انتقلت إلى حكم الثالثة فضربت، فيجعلون العقوبات مرتبة على المراحل الثلاث، ويجعلون الآية مجزأة على أحوال النشوز، كما جزءوا آية الحرابة على أحوال المحاربين في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، فجعلوا هذه العقوبات مختلفة بحسب اختلاف قطع الطريق والحرابة، وهذا مذهب الشافعية ومن وافقهم.

وكذلك هنا، فالمرأة يبتدئ نشوزها بعلامة يحتمل أنها نشوز، ويحتمل أنها عفوية، أو لسبب من خطأ منه تذكره به، فيصلح خطأه، فتصلح هي خطأها، فهذا بالنسبة لوعظهن.

فالمرحلة الأولى: أن تظهر منها العلامة دون إصرار في المرة الأولى، والمرة الثانية، وفي المرة الثالثة ينبهها.

وليس المراد أنه بمجرد ما يرى من المرأة شيئاً ينبهها مباشرة ويذكرها، فعلى الرجل أن يكون حكيماً وأن يجعل الموعظة عند الموجب، وأن لا يضخم بعض الأشياء؛ فإن الناس تنتابهم بعض العوارض، وأنت بشر، فكما ترى في غيرك الخطأ، فغيرك يرى فيك الخطأ.

فليس كل فعل من المرأة، وكل قول يفسر بأنه نشوز، أو أنه مقدامات النشوز، وليس من اللائق أن يجلس الرجل يراقب كل صغيرة وكبيرة من المرأة، فإن الناس إذا كانوا على غفلتهم، فقد يكونون في مأمن من هذه الأمور.

فالمقصود: أن الإنسان بعد هذا لا يراقب مراقبة دقيقة، حتى ينظر أمارات النشوز، وإنما يكون الأمر محتفاً بقرائن ودلائل من المكان، والزمان، والملابسات بالقول والفعل، الذي يصدر من المرأة، فيغلب على ظن الإنسان أنه بداية النشوز فيعظها.

والوعظ هو التذكير بالله تعالى، ومثل العلماء له بقوله لها: اتقي الله، وخافي الله عز وجل، ويا فلانة إن الله سائلكِ عن حقي عليكِ، فلا يجوز لكِ أن تتبرمي، ولا أن تتسخطي، يا فلانة إنكِ تفعلين كذا وكذا، وإن هذا لا يعجبني فاتقي الله فيّ، أو نحو ذلك من الكلمات التي يُذكِّرها فيها بالله عز وجل.

وهذا من حكمة الله عز وجل، وقد نبه عليه الذين لهم عناية ببحوث التربية، كما نبه عليه القدماء، وذكرته كتب الأدب، فقالوا: إن العقوبة أبلغ ما تكون، وأكمل ما تكون، وأوقع ما تكون في النفوس، وأثرها محمود إذا سبقت بإعذار، وهو أن تنبه المخطئ، وتعذُر إليه، وتقول له: إياك أن تفعل، أو هذا الفعل خطأ، وقالوا: إن الصبي إذا نبهه والده في المرة الأولى، فقال له: إياك أن تفعل، فلا يقل له إذا كان في الأمر سعة: إن فعلت فسأضربك، بل يقول له في المرة الأولى: إياك أن تفعل، فإن رآه المرة الثانية يفعل ما نهاه عنه قال له: إن فعلت فسأضربك؛ لأنه إذا قال له: إياك أن تفعل، فأخطأ فسامحه شعر بحنان الأبوة ورحمة الأبوة، فإذا كررها مرة ثانية، فقال له: إن فعلت فسأضربك، فقد وعده، قالوا: فإن فعل فلا يتركه بل يضربه؛ فإنه إذا ضربه في الثالثة كان من أنجع ما يكون؛ لأنه لو تركه في الثالثة استمرأ الصبي، واستخف بوعيده، فأصبح إذا هدده لا يبالي بتهديده؛ لأنه ألف منه المسامحة، لكن إذا توعده، ووفى بوعيده، زجره ذلك.

ولذلك قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] فجعل العقوبة بعد الإعذار، وجعل الهجر للمضاجع -وهي العقوبة المتوسطة بين عقوبة الوعظ وعقوبة الضرب- جعلها كمجال للإصلاح، ومن هنا قال بعض العلماء: إن المرأة المحبة لزوجها إذا أعرض عنها زوجها تأثرت بذلك، وشعرت بخطئها، فأصلحته، وغيرت من حالها، واستقامت الأمور، فإن كانت غير محبة، فإنها تحتاج إلى من يشعرها بهذا الزوج، وتحتاج أن تنبه من غفلتها، وأن توقظ من سباتها بالقوة؛ لأن من لا تزجره الكلمة تزجره اللكمة، كما يقولون.

فإذا جاءها بالتي هي أحسن، وأعذر إليها، وأصرت، فحينئذٍ يضربها؛ لأنها لو تركت بدون عقاب لضاعت البيوت، وأصبحت البيوت هملاً، والرجال قوامون على النساء.

وهذا -كحق من الحقوق- إنما هو في شواذ النساء، وإلا فالأصل في المؤمنة أنها لا تُحيل زوجها إلى هذا، ولا تلجئه إلى هذا؛ لأن عندها من العقل، ومن خوف الله عز وجل ومراقبته ما يعقلها ويمنعها عن هذه الأمور، فإذا وعظها، وذكرها بالله، انتقل إلى الهجر.

والهجر للعلماء فيه وجهان: فمن أهل العلم من قال: إنه الوثاق، وهذا مأثور عن ابن جرير الطبري، ورجحه، من أجل الضرب، فجمع بين الهجر والضرب، حتى يكون أبلغ في التأديب، واختاره الإمام ابن جرير لحديث أسماء مع الزبير، أن الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه ضرب أسماء مع ضرتها حين وقع منهما ما وقع من أذيته رضي الله عنه وأرضاه، فالشاهد: أنه أخذ من هذا الأثر تفسير الآية الكريمة؛ لأن الهجار هو وثاق البعير، فقال هو ومن معه من العلماء في قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ} [النساء:34] أنه من الربط أثناء الضرب فقرن بين الهجر والضرب، فليس هناك إلا مرحلتان: الوعظ والعقوبة على هذا القول.

وأما على القول الثاني وهو قول الجمهور الذين قسموا المراحل إلى ثلاث -كما ذكرناها- فالعقوبات ثلاث: يبتدئ بالوعظ ثم الهجر، والهجر عند من يقول: إنه هجر الفراش فيه وجهان: فقال بعض أئمة السلف وأئمة التفسير، والفقهاء: يوليها ظهره في الفراش فيهجر جماعها، فهذا هجر بالفعل، ويهجر كلامها بالقول، فيمكنه أن يستخدم الفعل إذا نفع، ويمكنه أن يجمع بين الفعل والقول، والقول يتأقت، والفعل لا يتأقت، ففي الفعل يجوز أن يهجرها في المضجع شهراً لا يجامعها، وشهرين وثلاثة، ما لم يصل إلى حد الإيلاء، وأما بالنسبة للهجر هجر القول، وهجر الكلام، فلا يجوز أن يهجر فوق ثلاث ليال لورود النص.

وقال آخرون في الهجر: إن الهجر هجر الفراش بالكلية، ولا ينام معها في فراش واحد، وينام في غرفة غير غرفتها التي تنام معه فيها، ولربما هجر البيت فنام عند جاره، أو نام عند أخيه، أو عند أهله، فهذا من الهجر، وكله تحتمله الآية؛ لأن الهجر مطلق في القرآن، والنساء يختلفن، فمنهن من يهجرها بالقرب ويؤثر فيها، ومنهن من لا تهجر إلا بالبعد، فما وجده ناجعاً نافعاً لصلاحها وإصلاحها، ووفقه الله عز وجل في ذلك، فإنه لا بأس به.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015