قال رحمه الله: [أجنبية] الأجنبية مأخوذة من المجانبة بمعنى: المباعدة، ومنه سميت الجنابة؛ لأن صاحبها يبتعد عن فعل الصلاة، والأجنبية ضد القريبة، ومعنى ذلك: أن المصنف يميل إلى تفضيل نكاح الرجل من غير قرابته، وهذا مبني على أنه أنجب للولد، ويذكر بعض الأطباء من المتقدمين والمتأخرين أن النكاح من غير القريبة أفضل لنجابة الأولاد، ومنه الأثر المشهور عن ابن عمر: (اغتربوا لا تضووا) قالوا: إن الاغتراب أن ينكح من غير قريبة، وهي التي يعبر عنها بالأجنبية.
والحقيقة: نكاح القريبة له فضائل وله محاسن، ونكاح الأجنبية له فضائل وله محاسن، والأفضل أن تترك المسألة لتقدير الشخص، فالشخص نفسه يستطيع في بعض الأحيان أن يرى أن زواجه من قريبته أفضل، فحينئذٍ يقدم ويتزوج من القريبة، وأما التزهيد في نكاح القريبة فهذا في الحقيقة لا يخلو من نظر، فإن القريبة إذا تزوج منها كان أوصل للرحم، وكون الإنسان يستر قريبته وتكون في كنفه ويضمها إلى رعايته لا شك أن هذا من الإحسان إلى القرابة ومن صلة الرحم.
وثانياً: أن القريبة أصبر على الزوج من غير القريبة، فإنه لو طرأ في مستقبله أمور أو حوادث أو أصيب بعاهة أو ضرر أو نحو ذلك لوجد أصبر الناس عليه قرابته، ولو تغير مركزه أو جاهه وأصبح في ضيق صبر عليه أرحامه، وثبتته قرابته، وأحست أن ما دخل عليه من الضرر دخل عليها، وأن ما جاءه من السوء جاء إليها، كذلك أيضاً تكون القريبة أكثر قدرة على احتواء الوالد والوالدة والأخوات والقرابات، لعلمها بطبيعة المعاشرة وكيفية كسب رضا أقربائها، وهذا نقصد به القريبة العاقلة التي تحسن تقدير الأمور، ولذلك تركنا الأمر لكل رجل أن ينظر في نوعية القريبة.
فأنا أقول: إذا كانت القريبة بهذه المثابة، أو كانت القريبة من أسرة فيها صلاح، وفيها دين، وفيها استقامة، فإنك تنتفع منها في نصح القرابات، واتخاذ طريقة لاغتنام زواجك منها في الخير، فهناك أمور تقوي جانب القريبة في مثل هذه الأحوال، وأما الغريبة وهي غير القريبة فتارة يكون النكاح منها أحظ للإنسان من حيث سلامة الولد، والبعد عن بعض الأمراض التي قد تكون موجودة وراثة في البيت والأسرة، وكأنه يريد أن ينصح لولده من هذا الوجه؛ من باب تعاطي الأسباب، وإلا فلا ينجي حذر من قدر، ولربما فر من أقربائه لعاهة فابتلاه الله بأسوأ منها، ولربما فر من عاهة الدنيا فاحتقر قرابته -خاصة إذا كان لمقصد سيئ- فابتلاه الله عز وجل بعاهة الأخلاق، فخرج أولاده على سوء وبلاء، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك النكاح من الغريبة قد تخفى على الإنسان فيه أمور.
وأياً ما كان فأفضل ما ينبغي للزوج أن يبحث عنه: أولاً: أن يبحث عن طبيعة البيت الذي يريد أن يتزوج منه، وهو الذي يسمى بالحسب، والحسب من الحساب، والحسب أن تقول: أبي فلان العالم، وجدي الأول الشيخ فلان، ووالد جدي كذا، فتحتسب ما لآبائها، وهذا من باب معرفة فضل البيت، ومن باب إنزال الناس منازلهم، وهذا النوع من الحسب إذا وجد فالغالب أن الأسر التي هي ذات علم أو ذات شهامة كبيوت المشيخة والإمرة، وهؤلاء غالباً يترفعون عن عوام الناس في تصرفاتهم، فيكون فيهم الكرم، وتكون فيهم الشجاعة، ويكون فيهم الحرص على السمعة الطيبة، فتكون فيهم خصال حميدة، ومواقف طيبة تعين على التأسي بهم في الذرية، ولذلك إذا سمع الولد أن جدَّه فلانٌ وأن جد والدتِه فلانٌ دعاه ذلك أن يسأل: من هو فلان؟ وماذا كان يفعل؟ وكلٌّ منا يدرك ذلك، فإنه حينما يعلم أنه من بيت دَيِّن أحس أن عليه مسئولية وأن عليه أمانة، وأن عليه أن يحفظ لهذا البيت حقه، وأن يحفظ لهذا البيت قدره، فيحرص على أن يتوخى الحذر في أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذه أمور حميدة في الذرية والأسرة، فيحرص الإنسان عند نكاحه على هذا النوع وهي المعادن الطيبة والكريمة، فإن الله تعالى يضع الخير حيث شاء: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54].
فالبيوت التي عُرفت بالذرية الصالحة، وعُرفت بالاستقامةِ والمحافظةِ يكون الزواجُ منها خيراً وبركة، وينبغي كذلك أن يتوخى الحذر في الأخلاق، فيبتعد عن الأسر المعروفة بالحمق والعصبية والنزعات الجاهلية، حتى لا يؤثر ذلك عليه وعلى زوجه وعلى أولاده وذريته.
فإذا أراد أن يختار الزوجة فيبحث عن الدِّين الذي هو أساس كل خير ومنبع كل فضيلة، حتى إن المرأة ربما كانت من أسرة غير دَيِّنة وهي دَيِّنة، لكنها بدينها بعد فضل الله عز وجل تستطيع أن تتقي كثيراً من السلبيات وأن تتلافاها وتبتعد عنها.
الحرص على المعادن الطيبة مع الدِّين، فإن اجتمع الدين والدنيا فهذه نعمة عظيمة وخير على خير ونور على نور، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى: (تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) ومعنى الحديث: أن العائلات والأسر فيها معادن، (تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) قد تجد معدناً من أخلص الذهب وأصفاه وأعلاه وأجوده، وهذا المعدن الكريم في الناس، ومعدن تجده من أضعف المعادن وأكثرها شوباً وعيباً.
وكذلك بالنسبة للأخلاق، فتجد بعض الأسر فيها حمق وفيها جاهلية وعصبية، وإذا جاءها الدين ترفضه، وتقدم العادات والتقاليد على الدين، فأصحاب هذه النعرات الجاهلية والمآخذ السيئة في الدِّين إذا تزوج الإنسان منهم لا يأمن أن تسري هذه الصفات إلى الأولاد والذرية، وكم من رجل صالح بحث عن امرأة جميلة فوجدها في منبت السوء فدمرته وأشقته -نسأل الله السلامة والعافية-، وكم من امرأة أخرجت زوجها من بر والديه حتى عقهما فدعا عليه والداه آناء الليل وأطراف النهار، وكان من قبل يجلس عند قدم أبيه! وكم من امرأة -والعياذ بالله- دمرت الإنسان فصرفته عن طلب العلم وعن حلق الصالحين! وهذا معروف وموجود ومشاهَد، فمن نظر إلى شيء غير الدين نزع الله البركة منه، ومن تزوج امرأة وهو ينظر إلى يدها وغناها لم يزده الله إلا فقراً وضياعاً؛ لأن الله يعامله بنقيض قصده، فإذا قصد متاعَ الدنيا معناه أنه يستغني بغير الله ويفتقر إلى غير الله، وذلك شقاء العبد، فسعادة العبد في الاستغناء بالله جل جلاله، والافتقار إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول بعض العقلاء يوصي ولده: يا بني! تزوج امرأة تنظر في يدك ولا تنظر في يدها، يعني: امرأة تنظر إليك وتحس أن عندك الكثير من الدِّين والاستقامة؛ لكن إذا جاءت المرأة أغنى منك فأصبحت تنظر إلى غناها، وتنظر لما في يدها من راتبها، أو تنظر إلى ما في يدها من غنى والدها وأنها سترث وأنها كذا، فإن الله لا يزيدك إلا فقراً.
العاقل الحكيم ينظر هذه النظرة البعيدة؛ أن الزواج ينبغي أن يبنى على الدين، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) وذكر المرغبات في النكاح من المال والجمال والحسب، والذي يدخل معه النسب والدين ثم قال: (فاظفر) وكأنه كنز وشيء عظيم وغنيمة (فاظفر بذات الدين تربت يداك) وهذا يدل على أن الدين يغني عن هذه الأشياء كلها، فكم من امرأة فقيرة ولكن الله سبحانه وتعالى أغناها بالدين! وكم من امرأة ضعيفة ولكن الله قوَّاها وجعل عزَّها بدينها! وكم من امرأة يراها الإنسان فيزدريها ولكن الله جعل فيها قلباً يخافه ويخشاه فيحبها سبحانه! فمثل هذه المرأة الصالحة قد يكرم الله بها الإنسان فتخرج له أولاداً صالحين تقر عينه بهم، وخاصةً عند المشيب والكبر.
فالمقصود: أن من كان قصده ما عند الله سبحانه، والحرص على الدين، فلا شك أن الله عز وجل سيوفقه وسيجعل له من ذلك خيراً كثيراً.