قال رحمه الله: [دينة] أي: ذات دين، والدين تختلف مراتبه، فهناك المرأة الدينة التي بلغت أعالي الدرجات في دينها واستقامتها ومحافظتها، وهذا النوع أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات وأشاد بفضله ومكانته، فقال سبحانه وتعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] والمرأة الصالحة الدينة أفضل من غيرها، وقدمها المصنف؛ لأن خير الناس وأفضل الناس من كان عنده دين، وبقدر الدين يتفاضل العباد، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، (قيل: يا رسول الله! من خير الناس؟ -من هو خير الناس، ومن هو أفضلهم، ما قال صلى الله عليه وسلم: أغناهم، ولا أرفعهم حسباً أو نسباً- قال: أتقاهم) أي: خير الناس أتقاهم لله سبحانه وتعالى، فخير النساء أتقاهن لله عز وجل، ويعبر العلماء بمعنى التقوى في قولهم: دينة.
وعلى هذا فهناك مراتب للمرأة: المرتبة الأولى: أن تكون ذات دين، بمعنى: تحافظ على الصلوات، وتحافظ على الواجبات، وتمتنع من المحرمات، لكنها ليست بحريصة على الفضائل.
المرتبة الثانية: أن تكون محافظة على الواجبات، تاركة للمحرمات، تفعل الفضائل أحياناً وتتركها أحياناً.
المرتبة الثالثة: أن تكون كما سبق، ولكنها لا تترك فضلاً ولا طاعة، كلما علمت باب خير حرصت عليه، فحينئذٍ المرأة في هذه المرتبة لا تخلو من ضربين: النوع الأول: أن تكون حريصة على الفضائل والنوافل لنفسها، كقيام الليل وصيام النهار ونحو ذلك من الطاعات التي يكون نفعها خاصاً بها، وقد يلتحق بهذا النفع المتعدي نسبياً، كأن يكون عندها مال ودائماً تنفق فيكون نفعها متعدياً، لكن في الغالب ليس عندها علم، وهذا مرادنا، أن طاعتها ودينها وكثرة الخير فيها من جهة النوافل والطاعات.
النوع الثاني: أن يكون نفعها كهذه ومتعدٍ إلى الغير، كطالبة علم، وداعية إلى الله ونحو ذلك، فأفضلهن الأخيرة، فإن كانت ذات علم ومحافظة على دينها واستقامتها، وتنشر علمها وتدعو، فهذه أفضل وأكمل ولكنها تحتاج إلى رجل صابر، يعني: ينبغي أن يعلم أن اشتغالها بالدعوة وعلمها سيكون على حساب أمور في بيتها.
فمثل هذه عليها في الأصل أن تحفظ بيتها، ولا تخرج للدعوة وتترك ما فرض الله عز وجل عليها من تربية أولادها وبناتها؛ لأن الله فرض عليها أن تدعو الأقربين أولاً؛ فتبدأ ببيتها، ولا شك أنه من الخطر أن تترك حقوق البيت وحقوق الزوج لتخرج إلى الدعوة، وتحضر المجالس والمحاضرات وتضيع هذه الحقوق الآكد والأوجب، ولكنها تقوم بترتيب نفسها وإحسان التصرف مع بعلها وحقوق أولادها بحكمة وفطنة، والزوج الصالح يساعدها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، يعني: يساعدها ويعينها لكن في حدود شرعية بشرط أن لا يعرض نفسه للحرام، وأن لا يعرض أولاده للضياع.
فالمرأة التي بلغت أعالي الدرجات مثل هذا النوع من الداعيات الصالحات لا شك أنه أفضل، لكن ينبغي كما ذكرنا على الزوج إذا أقدم على هذا النوع من النساء أن يضع في حسبانه اشتغالهن بالدعوة وحرصهن على الخير، وأن هذا يترتب عليه تبعات ومسئوليات، فقد يحدث ما يوجب النفرة بين الزوجين بسبب عدم إحسان التصرف في مثل هذا النوع من النساء.
أما النوع الذي هو دون ذلك، فإن الفضل في زواجه يتفاضل على حسب المراتب، لكن هناك نوع في بعض الأحيان تفضل فيه المرأة من جهة القرابة إذا كانت قريبة ووجدت أمور تفضل النكاح منها، فالدينة القريبة لا شك أنها أولى وأحرى، وسنبين هذا عند قوله: [أجنبية].
فقد يفضل نكاح الدينة بوجود صفات أُخر، وخاصة إذا اقترن نكاح المرأة ببر الوالدين، فإن الرجل الذي يحرص على الزواج من امرأة يرضى عنها والده وترضى عنها والدته حري به أن يبارك الله له في زواجه، وأن يبارك الله له فيما أقدم عليه من نكاحها، أما إذا أقدم على النكاح بشيء فيه عقوق للوالدين فقد تنزع البركة من هذا النوع من النكاح، فيحرص على أن يطلب امرأة يجمع فيها بين رضى الله سبحانه وتعالى ورضى والديه.
فإن كانت المرأة غير دينة، فهذا طبعاً يتفاوت بحسب ما ذكرنا من النساء في الدين، فكما أن الدين يتفاوت كذلك ضعف الدين يتفاوت، فإذا كانت غير دينة، يعني: تختلف لكنها في الأصل مسلمة؛ لأن غير المسلمة لا نتكلم عليها، والكتابية لها أحكام خاصة سنتكلم عليها، أما المشركة والوثنية والملحدة التي لا دين لها -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا النوع من النساء لا يجوز نكاحه إلى الأبد حتى تسلم، فإذا أسلمت جاز نكاحها، أما وهي على وثنيتها فلا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم).
فالشرك والوثنية أمرهما عظيم، ولكن الله خص الكتابية؛ لأن هناك نوعاً من الرضا بالدين؛ لأنها ذات دين، وهناك قاسم مشترك وإن كان هناك اختلاف بين الديانات؛ فمادام أنها ارتضت الدين ارتضت الطاعة فإنك تستطيع أن تدخلها في الإسلام، ولذلك جاز نكاح الكتابية ولم يجز أن ينكح الكتابي مسلمة، وهذا يدل على أن القصد التأثير.
قلنا: إذا لم تكن دينة فهذا يتفاوت، لكن هناك المرأة التي هي ضعيفة الدين ويكون ضعفها بترك الواجبات أو فعل المحرمات، فيختلف هذا؛ لأن هناك واجبات إذا تركتها حكم بكفرها فلا إشكال، وهناك محرمات إذا وقعت فيها تعدى ضررها إلى الغير، مثل الزانية التي هي ناقصة الدين، فالزانية لا يجوز أن يتزوجها، ولذلك قال الله عز وجل: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، ومذهب طائفة من العلماء رحمهم الله: أنه لا يجوز نكاح الزانية إلا بشرطين، الشرط الأول: استبراؤها من الزنا؛ أن تنهي عدتها، والشرط الثاني: أن تتوب إلى الله من الزنا، ولذلك لما جاء مرثد بن أبي مرثد وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح عناق منعه من ذلك ونزلت الآية.
وأما ما ورد من قول: (إن امرأتي لا ترد يد لامس) فهذا حديث ضعيف، وتكلم الإمام ابن القيم رحمه الله عليه كلاماً نفيساً وبين ضعفه، ولكن على القول بتحسينه كما حسنه الحاكم، وبعض المتأخرين يميل إلى تحسينه، على هذا القول لو فرض أنه حسن أجاب ابن القيم بجواب حسن وقال: (إن المراد بقوله: (لا ترد يد لامس) ما كان عليه أهل الجاهلية، فقد كانوا يتركون للعشيق أن يستمتع بالمرأة باللمس ونحو ذلك ولا يصل إلى الزنا، لكن هذا الحديث في الحقيقة حتى لو صح فيه دليل يدل على أنه لا يجوز استبقاء مثل هذا؛ لأنه قال له: (يا رسول الله! إن امرأتي لا ترد يد لامس، قال: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فقال عليه الصلاة والسلام: فأمسكها) فكأنها حالة ضرورة.
(أن تتبعها نفسي) يعني: أني تعلقت بها وأحببتها، فإن طلقتها سأعود وأزني بها، فقال: (أمسكها) وهي مسألة تعارض المفسدتين، وللعلماء فيه كلام، لكن الذي تطمئن إليه النفس أن الحديث غير ثابت، وعلى القول بثبوته يصرف إلى مسألة اللمس الذي لا يصل إلى الزنا، فيكون قوله: (فأمسكها) يمسكها لمفسدة اللمس من الأجنبي التي هي أخف من مفسدة وقوعه في الزنا، فيكون تخريجه على الوجه الذي اختاره الإمام ابن القيم على فرض ثبوت الحديث.
نرجع إلى مسألتنا: إن كانت المرأة غير دينة يسأل عنها الذي يريد زواجها: هل هي تضيع الواجبات؟ ويسأل عن نوع الواجبات، ويسأل عن نوع المحرمات، فإن كانت المحرمات الضرر فيها متعدٍ فلا يطلبها؛ لأنه لا يؤمن أن يسري الفساد إلى أولاده وذريته، وهناك تفصيلات في مسألة الزواج من غير الدينة، فإذا غلب على ظن الناكح أنه سيهديها وأنه سيؤثر عليها خاصة إذا كانت قريبة، فإنه يعزم ويتوكل على الله إذا أمره والداه وغلب على ظنه أنه سيدعوها ويؤثر عليها، وهذا مخرج من نكاح الكتابية، فإن نكاح الكتابية يجوز من أجل دعوتها إلى الإسلام، فإذا كانت قريبة وأمر بها الوالد وكان دينها خفيفاً لكنك إذا تزوجت بها قوي دينها وقويت استقامتها، فإنه مما يرغب أن تنكحها، ولا بأس في هذه الحالة من الإقدام على زواجها والنكاح منها.