فأصبح عقد المساقاة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود على النحو الآتي: الْمُساقِي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الركن الأول في عقد المساقاة؛ لأنها تستلزم مساقياً، ومُسَاقَى، ومُسَاقَى عليه وهو المحل، وصيغة يتم بها العقد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأرض لأنه ولي المؤمنين والقائم على مصالحهم.
والمساقَى هم اليهود، وهم العمال الذي يقيمون باستصلاح الأرض.
ثم المُسَاقَى عليه وهو نخل خيبر وما كان فيها من زروع.
وأما الصيغة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم فيها وقال: (نقركم ما شاء الله).
فعاملهم، وكان الاتفاق بينه وبينهم على أنهم دائماً يوفون بعقد المساقاة الذي يستلزم جانبين: الجانب الأول: أن يقوم العامل بالعمل.
والجانب الثاني: أن يلتزم رب النخل بإعطاء الأجرة والمقابل له بعد تمام عمله.
فإذاً عندنا عمل العامل وهو رعايته للنخل وسقيه لها، وسنبين ما الذي يُطَالب به من القيام على مصالح النخيل.
إذا قام العامل بسقي النخل ورعى المزرعة رعايةً تامة كاملة على الوجه المعتبر استحق الأُجرة التي اتُّفِق عليها، وهي نصف الثمرة أو ربعها الثمرة أو ثلثها أو غيره، فإذا جُذَّ النخل وأُخْرِجت منه ثمرته وحُصِد فإنه يأخذ الثمرة المتفق عليه.
وبناءً على ذلك عقد عليه الصلاة والسلام هذا العقد على هذا الوجه، فدلَّت السنة على مشروعيته.
ولذلك أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز هذا النوع من العقود، وقد حكى إجماعهم غير واحدٍ من أهل العلم، ونقل الإمام ابن قدامة رحمه الله عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ثم أبو بكر ثم عمر ثم المسلمون من بعدهم) دل على أنه كان أمراً معروفاً وشائعاً ذائعاً بين المسلمين.
فتبين أن جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على جوازه، لكن خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه، وعَدَّ عقد المساقاة من العقود التي فيها غرر، ووافقه على ذلك صاحبه زفر بن الهذيل رحمه الله، فقال بعدم مشروعية المساقاة، والصحيح ما قاله جماهير السلف والخلف وأئمة الصحابة والتابعين رحمة الله عليهم أجمعين؛ أن عقد المساقاة عقدٌ مشروع.
وأما ما قاله من الغرر فإن الشريعة قد أذِنت بهذا النوع على سبيل الرخصة، والأصل يقتضي أنها إجارةٌ بمجهول جهالة الزمان وجهالة العمل؛ لأننا لا ندري متى تخرج الثمرة؟ ولا ندري هل تخرج كاملةً أو ناقصة؟ ولا ندري هل تسلَم من الآفات أو لا تسلم؟ فهو عقد فيه مخاطرة ولكن الشريعة الإسلامية أجازته.
وبناءً على ذلك فالقول المعتبر قول من قال بجوازه، لدلالة السنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك.
ومن الحِكم التي تُستفاد من جواز عقد المساقاة عظيم الرفق الذي جعله الله في هذا العقد، فإنك ربما ملكت مزرعةً لا تستطيع القيام بها، وقد لا تستطيع دفع النقود وسيولة المال للعامل، وأنت تريد أن تبقى هذه المزرعة، كأن يكون عندك مائة من النخل، فإن النخل يحتاج إلى جهدٍ عظيم، ومشقة وعناية، وخبرة ودراية، فليس كل إنسانٍ يُحسِن القيام على مزارع النخيل كما لا يخفى.
فإذا كان هذا النوع من المال عندك فإنه لو قيل لك: استأجر عاملاً.
ربما لا توجد عندك السيولة التي تستأجره بها، ولا تجد من يتبرع، ولا تستطيع بنفسك، فجاءت الشريعة بالسماحة واليسر، وقالت للعامل: اعمل وخذ جزءاً من الثمرة، فأصبحت هناك مصلحة لرب البستان ومصلحةٌ للعامل، وهذا النوع لا شك أنه يقضي على البطالة؛ لأنه ربما وظفت عاملاً لم يجد عملاً، وأيضاً فيه نوعٌ من التكافل واستغلال الأموال وتنميتها دون أن تبقى معطَّلة.
وعلى هذا فلا شك أن القول بمشروعيته تتضمن الخير للأفراد والجماعات، ثم بقاء هذا البستان وخروج ثمرته وحصول منفعته؛ منفعةٍ للمجتمع، فإن المجتمعات تنتفع بالنخيل وبالثمار التي تكون من المزروعات.
إذا ثبت القول بمشروعية عقد المساقاة، وأن فيه حكماً عظيمة، فعقد المساقاة يستلزم الأركان التي ذكرناها، ومنها المُسَاقِي، وهو صاحب المزرعة، وقد تكون المزرعة لأكثر من شخص، كرجلين اشتريا مزرعة واستأجرا عاملاً ليقوم بسقيها على أن يعطيه جزءاً من الثمرة، فيكون الْمُسَاقِي أكثر من شخص.
وقد تكون المزرعة عند شخص ثم يموت ويتركها لورثته، والورثة يحبون بقاء المزرعة، أو لا يرغبون في بيعها، فحينئذٍ يكون الْمُسَاقِي أكثر من شخص وهم الورثة، ويوكلون من يقوم عنهم لإبرام العقد مع العامل.
والركن الثاني: المسَاقَى، وهو العامل، وقد يكون عاملاً واحداً وقد يكون أكثر من شخص، كأن تساقي شخصين أو ثلاثة وتقول لهم: اعملوا في هذه المزرعة واسقوها وقوموا برعايتها، ولكم نصف ما يخرج منها، فحينئذٍ يكون الطرف الثاني في العقد وهو المُسَاقَى أكثر من شخص، ويتفق هؤلاء الثلاثة أو الأربعة على القيام بالمزرعة، خاصةً إذا كانت كبيرةً لا يستطيع شخص واحد أن يقوم بها وإنما يقوم بها أكثر من شخص.