من الأبواب يذكرها الإمام النووي رحمه الله: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها.
فقارئ القرآن ينبغي أن يحسن صوته بالقرآن، وأن يتغنى به، تعظيماً وتوقيراً لكتاب الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك في غير القرآن، فلم يذكر شيئاً ثانياً، لا التغني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التغني بالشعر، ولا التغني بالكلام، ولا التغني في الخطبة، ولا التغني في الدعاء، وإنما ذكر التغني بالقرآن فقط.
وقد كان العرب ينشدون الأشعار ويتبارون فيها، فلما نزل القرآن أخبر الله تعالى أن القرآن ليس بقول كاهن، ولا بقول شاعر قليلاً ما تذكرون، أي: قليلاً ما يفهم هؤلاء الناس، فلو أن القرآن مثل الشعر الذي يقرءونه على أوزانهم لقالوا: هذا شاعر، أي: النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن القرآن أتى بفواصل جميلة وعجيبة، يسمعها من يسمعها فيقول: لا يمكن أن يكون هذا شعراً، ولكن له حلاوة ونغمة، فالقرآن كلماته متآلفة ليست متنافرة، وعندما يقرؤه الإنسان يجد متعة على لسانه، ويجد نغمة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتغنى بالقرآن، ولم يأمرنا أن نتغنى بشيء غير القرآن.
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)، (ما أذن) أي: ما استمع الله عز وجل لشيء، والله يسمع كل شيء، ولكن فرق بين سماع وسماع، فـ (ما سمع) هنا أي: يحب أن يستمع لهذا القرآن من نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهو أجمل الناس صوتاً، وأحسنهم تلاوة صلوات الله وسلامه عليه: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن)، وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، فليس هناك غيره حسن الصوت يتغنى بهذا القرآن العظيم، ولكن من تواضعه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك على وجه الالتفات، فلم يقل: ما أذن الله لشيء ما أذن لي أن أتغنى بالقرآن، صلوات الله وسلامه عليه، ولكن من تواضعه قال: (ما أذن لنبي)، ومن كان موجوداً معه من الأنبياء صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن مع أصحابه؟ لا أحد.
وقوله: (يتغنى به) أي: يترنم بآيات كتاب الله عز وجل بنغمة جميلة، ويجهر بذلك، ويسمع الخلق، فيقرأ كتاب الله عز وجل لينتفع الخلق به.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، فقد استمع لـ أبي موسى الأشعري ليلة وهو يقرأ القرآن وحده في المسجد في الظلام، ووقف وقفة طويلة يستمع له، وأعجبه صوت أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه، وفي الصباح قال له: (لو رأيتني وأنا أستمع إليك البارحة)، وقوله: (لو رأيتني) أي: لأعجبك ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم استمع لـ أبي موسى الأشعري لجمال صوته، ولحسن تلاوته وأدائه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أستمع إليك البارحة)، أي: لأعجبك ذلك، فقال أبو موسى الأشعري: (لو علمت يا رسول الله لحبرته لك تحبيراً)، أي: لو علمت أنك تستمع لقراءتي لأنها أعجبتك لحبرتها لك تحبيراً، وحاشا أبا موسى أن يرائي أو يسمع، ولكن أعجبه أن الرسول العظيم الكريم يستمع له، وإذا كان يستمع له وصوته يعجب النبي صلى الله عليه وسلم لزاد أبو موسى ولحلى صوته أكثر ليسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما يحب أن يسمع من أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وفي الحديث المتفق عليه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه صلوات الله وسلامه عليه).
وقد كان الصحابة يسمعون لـ أبي موسى الأشعري بعد وفاة صلى الله عليه وسلم، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي أبا موسى ويقول: ذكرنا بالله.
فيقرأ أبو موسى والكل يسمعون في ذلك المجلس.
وهنا البراء بن عازب يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ما سمع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (ما سمعت صوتاً أحسن من صوت النبي صلوات الله وسلامه عليه)، فهو صوت جميل يستمع إليه ربه سبحانه وتعالى وهو يقرأ القرآن، ويتغنى بكتاب الله سبحانه في خشوع، وقد كان إذا قرأ يسمع في صدره أزيز كأزيز المرجل، من خوفه من الله عز وجل، وبكائه منه، صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك كان هذا لا يؤثر على جمال صوته، وحسن تلاوته، صلوات الله وسلامه عليه.