يقول الإمام النووي: باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم، وإظهار الافتقار إلى الله.
والمعنى: أن الإنسان المؤمن إذا مر بقبور الظلمة والكفار وبالمشاهد التي يذكرون أنها آثاراً لهم، كآثار الفراعنة، فلا يمر ويفتخر بهؤلاء ويقول: هؤلاء هم آباؤنا وأجدادنا! إن هذا الذي يفتخر بهؤلاء ويقول: نحن الفراعنة، ونحن أصلنا كذا.
نقول له: إن هؤلاء كفار آذوا رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا قتله، وأنكروا بعثته ورسالته صلوات الله وسلامه عليه، فلا يفتخر بالكافر إلا من كان مثله، أو من ذهب عقله.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه افتخر رجلان على عهد موسى صلوات الله وسلامه عليه، فأما أحدهما فقال للآخر: أنا فلان ابن فلان ابن فلان فعد تسعة آباء، ثم قال لهذا الآخر من أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، فانتسب للإسلام وليس لهؤلاء الآباء من الكفار، فأوحى الله إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه أن قل لهذين المفتخرين: أنت افتخرت بتسعة آباء من الكفار أنت عاشرهم في النار) حتى ولو لم يكن على دينهم، وهذا الرجل لم يكن كافراً، ولو كان كافراً فلن يسمع كلام موسى عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان ممن تبع موسى عليه الصلاة والسلام وفي قلبه جاهلية وعصبية، قال: (وأنت افتخرت بالإسلام فأنت في الجنة) فقضى الله عز وجل أن الذي يفتخر بالأشرار مثلهم وسيحشر معهم.
والفراعنة الكفار الذين ملكوا البلاد في يوم من الأيام أين هم الآن؟ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، والعياذ بالله.
فالذي يفتخر بهؤلاء فإنه يفتخر بأهل النار، وسيكون معهم في النار، فلذلك لا يحل لمسلم أن يقول مفتخراً بالفراعنة الذين بنوا الأهرام حتى يخلدوا ويعيشوا، فليس له أن يفتخر بهؤلاء، فإذا مر بقبورهم نظر واتعظ، فيكون المرور للاتعاظ فقد بنوا هذه الآثار العظيمة فهل نفعتهم من الله سبحانه وتعالى شيئاً؟ وهل منعتهم من الموت؟ لقد زعموا أنهم سيخلدون، وزعموا أنهم الآلهة والأرباب لخلق الله، واستخفوا أقوامهم فأطاعهم أقوامهم، فإذا مر الإنسان بقبورهم وآثارهم اتعظ واعتبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا في حديث ابن عمر المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما مرو بالحجر -والحجر ديار ثمود، وهي على أطراف الحجاز مع الشام- فقال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين).
فالإنسان إذا دخل على أماكن من أصابهم العذاب تذكر نقمة الله عز وجل، وأن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأن هؤلاء لما كفروا بالله أهلكهم الله وأتلفهم، وهذا حالهم الآن، فيأمرهم النبي بقوله: (لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونوا باكين)، أي: فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، فلا تدخلوا عليهم وأنتم تضحكون وتلعبون، ولا تتخذوا أماكنهم التي أهلكهم الله فيها للهو واللعب؛ بحيث يأتي إليها الناس وهم يغنون ويرقصون وكأن هذا المكان مكان لهو ولعب، فإذا فعلوا ذلك فكأنهم يسخرون بانتقام الله عز وجل من هؤلاء، ويسخرون من الموت، وإذا كان الأمر كذلك استحقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء، فإن الذي لا يتعظ ولا يعتبر يستحق أن يبتلى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم) أي: إذا دخلتم فادخلوا وأنتم تعرفون نعمة الله عليكم، وتخافون من بطش الله سبحانه، وإذا لم يكن هذا حالكم فلا تدخلوا حتى لا يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء.
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع السير عليه الصلاة والسلام حتى أجاز الوادي).
ومن الحكمة وأنت في الحج حين تخرج من المزدلفة متوجهاً إلى منى أن تمر ببطن محسر مسرعاً؛ لأنه المكان الذي أهلك الله عز وجل فيه أصحاب الفيل، ولما وصله النبي صلى الله عليه وسلم أوضع راحلته، أي: أسرع براحلته حتى جاوز هذا المكان، وصارت سنة النبي صلى الله عليه وسلم المرور في هذا المكان بسرعة؛ لهذا الغرض ولهذه العلة، فإذا مررت تذكرت ذلك، واستحضرت أن هذا المكان مكان نزل فيه العذاب، وليس هناك ما يدعو إلى المكوث في هذا المكان بل نسرع في هذا المكان، فقد كان شؤماً على أصحابه حيث نزل عليهم العذاب في هذا المكان.
وكتاب الجنائز الذي ذكره الإمام النووي بعده كتاب السفر، وقد شرحناه في الأيام الماضية، وكل الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي ذكرناها في مقدمتنا لكتاب الحج، فلا نعيد تكرار هذا مرة ثانية.