ورد في هذا الأمر حديث ابن مسعود وهو حديث متفق عليه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك يعني: في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مرض مرضاً شديداً، وارتفعت حرارته صلى الله عليه وسلم، فكانت الحمى شديدة عليه عليه الصلاة السلام، يقول ابن مسعود: (فمسسته) أي: مس جلد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ينظر حرارته، فوجد حرارته عالية جداً عليه الصلاة والسلام، قال: فقلت: إنك لتوعك وعكاً شديداً، أي: الحمى بلغت بك أمراً شديداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل) يعني: نعم.
(إني أوعك كما يوعك رجلان منكم) وسبحان الله! كم عانى النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذه الدنيا فلقد ابتلي مدة حياته صلوات الله وسلامه عليه بلاءً صعباً منذ دعا إلى ربه سبحانه، فكان يتعرض للأذى من القوم الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم، ويؤذون أصحابه عليه الصلاة والسلام، فيؤذونه ويحاربونه صلوات الله وسلامه عليه، ويحاربون دعوته وهو يصبر على ذلك كله صلوات الله وسلامه عليه.
ولقد تعرض للأذى صلى الله عليه وسلم في كل يوم ومع ذلك يصبر على الأذى صلوات الله وسلامه عليه، ويكفي ما يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة من إيذاء له من أقربائه، فقد كان عمه أبو لهب يسير وراءه صلى الله عليه وسلم ليكذبه وهو يدعو القوم لدين الله، فيقول: نحن أعلم به، إنه يكذب عليكم.
وينفر الناس ويصدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أبناء عمه صلوات الله وسلامه عليه من آذاه، فمنهم من تزوج بابنة النبي صلى الله عليه وسلم وأرغمه أبوه أن يفارقها ويطلقها حتى يكيد للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وآذاه أهل مكة حتى خرج إلى الطائف يرجو أن يفتح الله عز وجل له هناك، فاستقبلوه استقبالاً قبيحاً حيث خرج أوباش القوم واصتفوا له صفين يرمونه بالحجارة صلوات الله وسلامه عليه حتى أدموا قدميه عليه الصلاة والسلام، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة والقوم في غيض منه عليه الصلاة والسلام، وظل يدعوهم إلى الله وهم يأبون ذلك، ويؤذونه ويؤذون أصحابه، فيمر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يعذبون في مكة كآل ياسر مثلاً فلا يملك لهم شيئاً عليه الصلاة والسلام، ويرى أتباعه وهم يعلقون ويضربون ويجلدون ويقتلون فلا يملك أن يفعل لهم شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، ولقد اجتمع عليه الكفار ذات يوم، وقاموا له قومة رجل واحد يريدون ضربه وقتله صلى الله عليه وسلم، فلم يجرؤ أحد أن يخرج إلى هؤلاء إلا أبا بكر رضي الله تعالى عنه حيث خرج قائلاً: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟! فيدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم فيضربونه ضرباً شديداً حتى يقع مغشياً عليه رضي الله تعالى عنه، فانظروا! فعلوا ذلك في أبي بكر، فما كانوا ليصنعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! فحمل أبو بكر إلى بيته وغدائر شعره تسقط في يده من شدة الضرب، فحمل إلى البيت وهو يسبح ربه سبحانه وتعالى، ويتعجب لصنيع الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم وبه رضي الله تعالى عنه.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من شدة الأذى والبلاء وبعد التكذيب العظيم الذي وجده في مكة ابتلي في المدينة صلوات الله وسلامه عليه بالكفار اليهود، والمنافقين، وبضعاف الإيمان ممن كانوا معه عليه الصلاة والسلام، وخاصة بالمفتونين منهم، ومات أولاد النبي صلى الله عليه وسلم وماتت بناته صلوات الله وسلامه عليه واحدة تلو الأخرى وهو يصبر، وقبل ذلك مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته خديجة، وهذا كله كان في مكة والمدينة، وأما بناته صلى الله عليه وسلم فمتن كلهن قبله عدا فاطمة رضي الله عنها، إذ ماتت بعده بستة أشهر صلوات الله وسلامه عليه، وصبر صبراً عظيماً، وفي يوم بدر في هذا اليوم الصعب الشديد الذي كان عدد المؤمنين فيه عدداً قليلاً وأسلحتهم قليلة جداً، وكان الكفار عددهم ثلاث أضعاف المسلمين، وكانوا مجهزين بالأسلحة وقاصدين قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يتصبر بربه سبحانه، ويقاتل ويجاهد فينصره الله سبحانه، وهو في هذا النصر يأتي إليه خبر وفاة ابنته صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: فهذا النصر الذي يفرح به المسلمون لم يفرح به النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً كاملاً، فقد ماتت ابنته صلوات الله وسلامه عليه.
فكتم أحزانه ودارى شعوره صلوات الله وسلامه عليه، وأظهر الفرح مع المسلمين؛ حتى لا يغمهم في هذا اليوم الذي فرحوا فيه بنصر الله سبحانه وتعالى، فأذى بعد أذى للنبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عز وجل له، فلما فتح له صلوات الله وسلامه عليه إذ به ينزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2] أي: فاستعد للآخرة فإنا سنقبض روحك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، فكم عانى وكم ابتلي صلوات الله وسلامه عليه، فمن ابتلاه الله عز وجل وأراد أن يتصبر فليقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو الأسوة الحسنة، والقدوة العظيمة الطيبة صلوات الله وسلامه عليه.
ولقد ظل به البلاء حتى في مرض وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا من درجاته العظيمة عند الله سبحانه، حيث أراد له أعلى الدرجات، ولن ينالها إلا بالمشقة والتعب صلوات الله وسلامه عليه، فلما كان في مرض وفاته شدد عليه في المرض عليه الصلاة والسلام، فوعك وابتلى بمرض يبتلى به رجلان صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقول: (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)، فكان يتألم من المرض ويصبر عليه صلوات الله وسلامه عليه.